إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال الله تعالى (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (سورة الإخلاص آية 4) أَيْ أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى (كُفُوًا) يُقْرَأُ كُفُوًا وَيُقْرَأُ كُفْوًا بِتَسْكِينِ الْفَاءِ عَلَى إِحْدَى الْقُرَاءَاتِ، وهذه الآية قد فسَّرتها أية الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (سورة الشورى آية 11)، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة، فلا يحتاج إلى مكان يحُل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها، بل الأمر كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) رواه أبو منصور البغدادي.
 
سَبَبُ نُزُولِ الإِخْلاصِ:
قَالَتِ الْيَهُودُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صِفْ لَنَا رَبَّكَ) (1) قَدْ كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا (أَيْ عِنَادًا) لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الإِخْلاصِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أَيِ الَّذِي لا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ، بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعِلْمُهُ وَاحِدٌ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى (اللَّهُ الصَّمَدُ) أَيِ الَّذِي تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَالَّذِي يُقْصَدُ عِنْدَ الشِّدَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَجْتَلِبُ بِخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) نَفْيٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْحِلالِ وَهُوَ أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِي شَىْءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أَيْ لا نَظِيرَ لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
 
والدّلِيْلُ العقْلِيُّ على ذلِك أنّهُ لو كان يُشْبِهُ شيْئًا مِنْ خلْقِه لجاز عليْهِ ما يجُوزُ على الخلْق مِن التّغيُّرِ والتّطوُّرِ، ولو جاز عليْهِ ذلِك لاحْتاج إلى منْ يُغيّرُهُ والمُحْتاجُ إلى غيْرِه لا يكُونُ إِلهًا، فثبت لهُ أنّهُ لا يُشْبِهُ شيئًا.
 
فلو كان الله فوق العرشِ بذاتِهِ كما يقولُ المشبِّهةُ لكان محاذيًا للعرشِ، ومِنْ ضرورةِ المُحاذِي أنْ يكون أكبر مِن المحاذى أو أصغر أو مثله، وأنّ هذا ومثله إنما يكونُ في الأجسامِ التي تقبلُ المِقدار والمساحة والحدّ، وهذا مُحالٌ على الله تعالى، وما أدّى إلى المُحالِ فهو محالٌ، وبطل قولُهُم إن الله متحيّزٌ فوق العرشِ بذاتهِ.
 
ومنْ قال في الله تعالى إِنّ لهُ حدًّا فقدْ شبّههُ بخلْقِهِ لأنّ ذلِك يُنافي الألُوهِيّة، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ لاحتاج إِلى منْ جعلهُ بذلِك الحدّ والمِقْدارِ كما تحتاجُ الأجْرامُ إِلى منْ جعلها بحدُوْدِها ومقادِيْرِها لأنّ الشّىء لا يخْلُقُ نفْسه بمِقْدارِه، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ كالأجْرامِ لاحْتاج إلى منْ جعلهُ بذلك الحدّ لأنّه لا يصِحُّ في العقْلِ أنْ يكُون هُو جعل نفْسه بذلِك الحدّ، والمُحْتاجُ إِلى غيْرِهِ لا يكُونُ إِلهًا، لأنّ مِنْ شرْطِ الإلهِ الاسْتِغْناء عنْ كُلّ شىءٍ.
 
قالَ الحَافِظُ البَيْهَقيُّ في كتابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ (اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحابِنا في نَفْيِ المكانِ عَنِ الله بِقَوْلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ، وأَنْتَ الباطِنُ فَلَيْسَ دونَكَ شَىْءٌ)، وإذا لَم يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ ولا دونَهُ شَىْءٌ لَم يَكُنْ في مكان).
 
(1) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ فَنَزَلَتْ (قُلْ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.