إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الأنبياءَ مَعصُومُونَ أي مَحفُوظُونَ مِنَ الكُفر قَبلَ أن يُوحَى إلَيهِم بالنّبُوّةِ وبَعدَ ذلكَ أيضًا، وأمّا قولُ سيّدِنا إبراهيمَ عن الكَوكَب حينَ رءاه (هذَا رَبّي) (سورة الأنعام 76) فهوَ على تَقدِير الاستِفهَام الإنكَاريّ فكأنّهُ قالَ أهَذا رَبي كمَا تَزْعُمُون، قالَ أبو حَيّان في النَّهر المادّ (1 – 706) ولا يُرِيدُ بذلكَ الاعتقَادَ وإنّما ذلكَ مِثلُ أنْ تَرى رَجلًا ضَعِيفَ القُوّةِ لا يَكَادُ يَنهَضُ فيَقُولُ إنسَانٌ هَذا نَاصِري بمعنى أنّه لا يَقدِرُ على نُصرَتي مِثلُ هَذا. اهـ
ثمّ لَمّا غابَ قال (لا أحِبُّ الآفِلِينَ) (سورة الأنعام – 76) أي لا يَصلُحُ هَذا ربًّا فكَيفَ تَعتَقِدُونَ ذلكَ، ولما لم يَفهَمُوا مَقصُودَه بل بقُوا على مَا كَانُوا علَيهِ قالَ حِينَمَا رأَى القَمرَ مِثْلَ ذلكَ، فلَمّا لم يَجِدْ مِنهُم بُغيَتَه أَظْهَرَ لهم أنَّهُ بَرِيءٌ مِن عِبَادَتِه وأنّهُ لا يَصلُحُ للرُّبُوبيّة ، ثم لما ظَهرَتِ الشّمسُ قالَ لهم (هَذا رَبّي هَذا أكبَر) أي على زَعمِكُم، فلَم يَرَ مِنهُم بُغيتَه فأَيِسَ مِنهُم مِن عَدمِ انتِبَاهِهِم وفَهمِهِم للمُرادِ أي أنّ هؤلاءِ الثّلاثةَ لا يَصلُحُونَ للألُوهيّةِ فتَبرّأ مما هُم علَيهِ مِنَ الشّرْكِ، ثم لم يَمكُث فِيهِم بل ذهَبَ إلى فِلَسطِينَ فأَقامَ هُنَاكَ وتُوفّي فيها، وفي خِلالِ ذلكَ ذَهَبَ إلى مَكّةَ بسُرّيّتِه هَاجَرَ وابنِه إسماعِيلَ وترَكَهُما هناكَ، وأمّا إبراهيمُ في حَدِّ ذَاتِه كانَ يَعلَمُ قَبلَ ذلكَ أنّ الرُّبُوبيّةَ لا تَكُونُ إلا للهِ بدَليلِ قَولِه تعالى (ولَقَدْ ءاتَينا إبراهيمَ رُشْدَهُ مِن قَبلُ) (سورة الأنبياء 51).
 
بعضُ النّاسِ غَلِطُوا فقالوا كانَ إبراهيمُ يَظُنُّ أنّ الكَوكَبَ إلهَه والشمسَ كذلكَ والقَمر كذلكَ ثمّ هَداه الله وهذا باطِلٌ وضلال، القرءانُ الكريمُ يقول (ولَقدْ ءاتَينَا إبرَاهيمَ رُشدَهُ مِن قَبل) مَعناه كان مؤمنًا عَارفًا بالله قَبلَ مُناظَرةِ قَومِه، القرءانُ بَرّأه مما يَظُنُّه بعضُ النّاسِ وقولهُم هذا في إبراهيمَ كُفرٌ مخالفٌ للآية.
ما مِن نبيّ منَ الأنبياء إلا وهوَ عَارفٌ بالله وما يجوزُ عَليه وما لا يجوزُ علَيه قبلَ نُزولِ الوَحي بالنُبوةِ عَليه.
 
قال القرطبي في تفسيره (16 – 56) وقال المفسرون في قوله تعالى (ولَقدْ ءاتَينَا إبرَاهيمَ رُشدَهُ مِن قَبل) سورة الأنبياء أي هديناه صغيرًا قاله مجاهد وغيره. اﻫ ذكره في تفسير سورة الشورى.
وقال القاضي الفقيه أبو الوليد بن رشد الجد القرطبي (المتوفى 520هـ) في المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات (ص 71) ولم يَستدلَّ إبراهيم بما عاينه في الكواكب والشمس والقمر لنفسه إذ لم يكن جاهلاً بربِّه ولا شاكًّا في قِدَمِهِ وإنما أراد أن يُريَ قومه وجه الاستدلال بذلك ويُعَيِّرَهم بالذهول على هذا الدليل الواضح ويُوْقِفَهم على باطل ما هم عليه.
 
وقال الرازي في كتابه عصمة الأنبياء(ص 62) والأصح من هذه الأقوال أن ذلك (أي قول إبراهيم هذا ربي) على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الإخبار ولذلك فإن الله تعالى لم يذم إبراهيم عليه السلام على ذلك بل ذكره بالمدح والتعظيم وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين، هذا هو البحث المشهـور في الآية. اﻫ
 
وقال الأسفرايني في التبصير(ص 160) وأن تعلم أن الحوادث لا يجوز حلولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلاًّ للحوادث لم يخل منها وإذا لم يخل منها كان محدثًا مثلها ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام لا أحب الآفلين بيّن به أن من حل به من المعاني ما يغيره من حال إلى حال كان محدثًا لا يصح أن يكون إلهـًا. اﻫ