إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ وقاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد بن رشد المتوفّى 520 هـ (البيان والتحصيل، كتاب الصلاة الأول، معنى الخشوع في الصلاة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (من سماع ابن القاسم من كتاب القبلة قال سحنون أخبرني ابن القاسم قال سمعت مالكا يقول في تفسير (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون 2) قال الإقبال عليها والخشوع فيها).
قال محمد بن رشد (الخشوع في الصلاة هو التذلل لله فيها، والاستكانة والخضوع بالخوف الحاصل في قلب المصلي باستشعاره الوقوف بين يدي خالقه (1) في صلاته ومناجاته إياه فيها، فمن قدر الأمر حق قدره ولم يفارق الخوف قلبه خشع في صلاته وأقبل عليها ولم يشغل سره بسواها وسكنت جوارحه فيها ولم يعبث بيده ولا التفت إلى شيء من الأشياء بعينه وتوجهت المدحة من الله تعالى إليه على ذلك بقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون 1) (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون 2).
ثم قال وكان عبد الله بن مسعود إذا قام في صلاته كأنه ثوب ملقى، فقليل من الصلاة مع الإقبال عليها والفكرة فيها خير من الكثير مع اشتغال القلب عنها.
وقال وليس جعل المصلي بصره في موضع سجوده بواجب عليه، والذي ذهب إليه مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن يكون بصره أمام قبلته من غير أن يلتفت إلى شيء، أو ينكس بصره، وهو إذا فعل ذلك خشع بصره، ووقع في موضع سجوده على ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس بضيق عليه أن يلحظ ببصره الشيء من غير التفات إليه، فقد جاء ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالله التوفيق) انتهى كلام بن رشد رحمه الله.
ونقول:
زَعَمَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ (2) لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَكِنْ نَقَلَ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنِ القَاضِي حُسَيْنٍ وَأَبِي زَيْدٍ المَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ خِلافَهُ، بَل وَنَقلَ عَنِ القَاضِي حُسَيْنٍ إِنَّ مُدَافَعَةَ الأَخْبَثَيْنِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى حَدٍّ يَذْهَبُ مَعَهُ الْخُشُوعُ أَبْطَلَتِ الصَّلَاة، وَقَد عَدَّ الغَزَالِيُّ الخُشُوعَ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ، قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي إعَانَةِ الطَّالِبِيْنَ وَلِأَنَّ لَنَا وَجْهًا اخْتَارَهُ جَمْعٌ أَنَّهٌ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، قَالَ الغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ اشْتِرَاطِ الخُشُوعِ وَالحُضُورِ اعْلَمْ أَنَّ أَدِلَّةَ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ البُهُوتِيُّ الحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ القِنَاعِ (وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ ابنُ المُنَجّى (مِن عُلَمَاءِ القَرْنِ السَّادِسِ الهِجْرِيِّ) أَنَّ الْخُشُوعَ وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ فَتَبْطُلُ صلَاةُ مَنْ غَلَبَ الْوَسْوَاسُ عَلَى أَكْثَرِ صَلَاتِهِ). اهـ
وَعَلَيْهِ أَبُو الوَفَاءِ بنُ عَقِيلٍ مِنَ الحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ خِلافَ المَشْهُورِ مِنْ مَالِكٍ، وَهُوَ المَفْهُومُ مِن ظَاهِرِ المَنْقُولِ المُشْتَهِرِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ.
ففي التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب كتاب الصلاة، شروط الصلاة (وفِيهَا ولَوْ صَلَّى وهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ بِقَرْقَرَةٍ ونَحْوِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشْغَلُ أَوْ يُعَجِّلُ أَحْبَبْتُ لَهُ الإِعَادَةَ أبداً……).
قال خليل رحمه الله (هذه المسألة لا تعلق لها بهذا الفصل، ولعله أتى بها لينبه على البطلان بالمعصية فيها، فيؤخذ منه البطلان في مسألة من صلى بالحرير، ويحتمل أن يكون أتى بها لينبه على إشكالها لأنه استحب الإعادة أبداً، والقاعدة في الإعادة المستحبة إنما تكون في الوقت.
ويجاب عن هذا بأن معنى قوله أحببت، أي أوجبت.
وهذه المسألة عند القرويين على ثلاثة أوجه (إن كان شيئاً خفيفاً فلا شيء عليه، وإن صلى به وهو ضام بين وركيه فإنه يؤمر بالقطع، فإن تمادى أعاد في الوقت، وإن كان مما يشغله عن استيفائها أعاد أبداً، وكذلك قال ابن بشير إن شغله عن الفرائض أعاد أبداً، وعن السنن في الوقت ويجري على ترك السنن متعمداً، وعن الفضائل لا شيء عليه) وإذا خرج لحقن فليجعل يده على أنفه لئلا يخجل، رواه ابن نافع عن مالك).
والله تَعَالَى أَعْلَمُ.
(1) شُهِرَ التعبير عن الحسابِ بالوقوفِ بين يدي الله ومعنى الوقوف بين يديِ الله حسابهم عند عرضِ أعمالهِم عليهِم وليس المعنى أن الله تعالى يكون في موقفِ القيامةِ ويكون الناس حوله لأن الله تعالى ليس جسمًا يتحيزُ في مكانٍ، الله تعالى ليس متحيزًا في مكانٍ ولا جهةٍ ولا في الفراغِ ولا ضمن بناء ولا هو في هواءِ العرشِ ولا هو جالسٌ عليه لأن الجلوسَ والاستقرارَ من صفاتِ الخلقِ والله منزهٌ عن هذا كلهِ لقوله تعالى (ليس كمثله شىء) (سورة الشورى 11) وتلك الهيئة التي يتصورها بعض الناسِ من أن الله يكون ذلك اليوم في موقفِ القيامةِ والناس حوله يجتمعون للحسابِ هذه الهيئة لا تجوزُ على الله لأن هذه هيئة الملوكِ تحُفُّ بهم رعاياهم.
(2) التّعظيمُ الذي يَصحَبُه استِشعَارٌ بالخَوف هذا هو الخُشُوع.