إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ وصلَّى اللهُ وسَلَّم على سيدِ المرسلينَ وإمامِ المتقينَ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى جَميعِ إخوانِهِ من النبيين والمرسلينَ وعلى ءَالِهِ وصحبه الطيبينَ.
يقول أحد العارفين بالله: من المقرر بين الموحدين أن الله تعالى لا يساويه خلقُهُ بصفة من صفاته، ومن صفاته العلمُ بكل شىء، قال تعالى {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة الحديد/ ءاية 3)ا فلو كان يصح لغيره تعالى العلمُ بكل شىء لم يكن لله تعالى تمدّح بوصفه نفسَهُ بالعلم بكل شىء، فمن يقول إنَّ الرسول يعلم بكل شىء يعلمه الله جعل الرسولَ مساوياً لله في صفة العلم، فيكون كمن قال الرسول قادرٌ على كل شىء، وكمن قال الرسولُ مريدٌ لكل شىء، سواء قال هذا القائل إنَّ الرسول عالم بكل شىء بإعلام الله له وقادرٌ على كل شىء بإقدار الله له، فلا مخلصَ له من الكفر.
ومما يردّ ذلك قولُهُ تعالى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (سورة الأنعام/ ءاية 59) وقولُهُ تعالى {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (سورة الزمر/ ءاية 46) تمدَّحَ تبارك وتعالى بإحاطته بالغيب والشهادة علماً، فهذا القائل إنَّ الرسول يعلم بإعلام الله له كلّ شىء يعلمه الله جعله مساوياً لله في إحاطة علمه بكل شىء.
ومما يرد ذلك قولُهُ تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}( سورة الجن/ ءاية 26 و 27) أي أنَّ الذي ارتضاه الله من رسول يجعل له رصداً أي حفظةً يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الشيطان.
فإلا ليست استثنائية بل هي بمعنى لكن، فيُفْهَمُ من الآية أنَّ علمَ الغيب جميعِهِ خاصٌ بالله تعالى، فلا يتطرّق إليه الاستثناء، فتكونُ الإضافةُ في قوله تعالى {عَلَى غَيْبِهِ}ا للعموم والشمول من باب قولهم المفردُ المضافُ للعموم، فيكون معنى غيبِه أي جميع غيبِه، وليس المعنى أنَّ اللهَ يُطْلِعُ على غيبِه مَنْ ارتضَى مِنْ رسولٍ.
فإذا كانت عقيدةُ أهلِ السنَّةِ أنَّ اللهَ تعالى منفردٌ بخلقِ الأجسامِ كلِها والأعراضِ كلها من حركةٍ وسكونٍ ونَفَسٍ ولمحةٍ وطرفةٍ، وأن من نسب خَلْقَ شىء مِن ذلك إلى غيره استقلالاً يكون كافراً مخالِفاً لردّه قولَهُ تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}( سورة الزمر/ ءاية 62).
قال الحافظ الفقيه اللغويُّ مرتضى الزبيدي الحنفي: اتفق أصحابنا من أهل ما وراء النهر على تكفير المعتزلة لأجل إثباتهم للعبد التأثير أي على هذا الوجه أي على وجه الخلق والإبراز من العدم إلى الوجود.
وقال الإمام المقدّم من الأشاعرة أبو منصور البغدادي:أجمع أصحابنا على تكفير المعتزلة، وذلك في كتابهِ تفسيرِ الأسماءِ والصفاتِ وفي كتابهِ الإمامة.ا
ويخالفُ ذلك أيضاً قولَه تعالى {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ( سورة الأحقاف/ءاية 9)ا فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية لا يعلم جميعَ تفاصيل ما يفعله الله به وبأمته، فكيف يتجرأ متجرئ على قول أن الرسول يعلم بكل شىء. اوروى البخاريُّ في الجامع حديثاً بمعنى هذه الآية ورد في شأن عثمانَ بن مَظْعون.ا فقائلُ هذه المقالة قد غلا الغلوَّ الذي نهى اللهُ ورسولُهُ عنه.
قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}( سورة المائدة/ ءاية 77) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إيّاكم والغلوَّ فإنَّ الغلوَّ أهلك من كان قبلكم“ا رواه ابن حبان.
وقد صحَّ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال “لا ترفعوني فوق منزلتي” وروى البخاري في الجامع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنكم محشورونَ إلى الله حفاةً عراةً غُرلاً {كما بدأنا أول خلقٍ نعيدُه} وإنه سيُجاءُ بأناس من أمتي فيُؤخَذُ بهم ذاتَ الشمال فأقول هؤلاء أصحابي فيُقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم فأقولُ سُحْقاً سحقاً أٌقولُ كما قال العبد الصالحُ وكنتُ عليهم شهيداً ما دُمْتُ فيهم” إلى قوله {العزيز االحكيم}.
ومن أعجب ما ظهر من هؤلاء الغلاة لما قيل لأحدهم: كيف تقول الرسول يعلم كل شىء يعلمُهُ الله وقد أرسل سبعين من أصحابه إلى قبيلة ليعلّموهم الدين فاعترضتهم بعضُ القبائل فحصدوهم، فلو كان يعلم أنّه يحصل لهم هذا هل كان يرسلهم؟! قال: نعم، يرسلهم مع علمه بذلك.ا والحديث رواه البخاري وغيره.
ومثل هذا الغالي في شدة الغلوّ رجلٌ كان يدّعي أنه شيخ أربع طرق قال: الرسول هو المرادُ بهذه الآية {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}ا (سورة الحديد/ءاية 3)ا وهذا من أكفر الكفر، لأنه جعل الرسول الذي هو خَلْقٌ من خَلْقِ الله أزلياً أبدياً، لأن الأولَ هو الذي ليس لوجوده بدايةٌ وهو الله بصفاته فقط. ا.ه