إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
لا يَجُوزُ الْقَوْلُ (كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ) بِقَصْدِ الدُّعَاءِ لِكُلٍّ
لِيُعْلَمْ أَنَّ الإِعَانَةَ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ وَالإِقْدَارُ وَلَيْسَ الرِّضَا كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعَانَ الْمُؤْمِنَ عَلَى إِيـمَانِهِ وَالْكَافِرَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الإِمَامُ مُحَمَّدُ الأَمِيرُ الْمَالِكِيُّ وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ الْهِجْرِيِّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عِلَيَّشٍ الْمَالِكِيُّ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الإِرْشَادِ وَغَيْرُهُمْ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَسْئَلَةَ فِيهَا تَفْصِيلٌ فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِقَصْدِ الدُّعَاءِ أَيِ الطَّلَبِ بِأَنْ يُعِينَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ كَفَرَ لِأَنَّ فِيهِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الإِخْبَارَ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مَحْكُومِيَّةٌ وَلا نَاهِيَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس 8].
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِينُ الْكَافِرَ عَلَى كُفْرِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ النَّقْشَبَنْدِيُّ، فَلا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ بَعْضِ الرَّعَاعِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّقْشَبَنْدِيَّةِ حَيْثُ أَنْكَرُوا عَلَيْنَا ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمُوهُ وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ الْجَهْلِ، لِأَنَّ مَعْنَى الإِعَانَةِ التَّمْكِينُ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الإِيـمَانِ وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْكَافِرَ مِنَ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ الْكُفْرَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَصِحُّ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الإِيـمَانِ وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْمَعَاصِي. وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَهَذَا لا يَجُوزُ، فَالأَوَّلُ أَيِ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْعَاصِي بِأَنْ يُمَكِّنَهُ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ كُفْرًا.
وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان 26] أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَعَانَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَلَكُوا وَالْكُفَّارَ الَّذِينَ مَلَكُوا فَنُمْرُودُ وَفِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُلُوكِ الْكُفْرِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْكُفْرِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمْ هَذِهِ الْقُدْرَةَ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ *** فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ *** وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ الْعِبَادَ يَجْرُونَ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ ءَامَنَ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ كَفَرَ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ) مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وَفَّقْتَهُ لِلْخَيْرِ أَعَنْتَهُ عَلَى الْخَيْرِ وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعِنْ أَيْ لَمْ تُعِنْهُ عَلَى الْخَيْرِ وَأَعَنْتَهُ عَلَى الشَّرِّ فَهَذَا لَمْ تُعِنْهُ عَلَى الْخَيْرِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لا يُعِينُ عَلَى الشَّرِّ.