إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

ما معنى الرؤية لله في الآخرة؟
 
الجواب:
قال الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) القيامة 22 – 23، وقال تعالى عن الكفار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) سورة المطففين، وقال الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) سورة الشورى، واعلم أخي أنّ الرؤية لله تعالى في الجنة تكون بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة ولا مسافة قرب أو بعد ولا كيفية ولا حجم ولا لون، ولا يكون عليهم في هذه الرؤية اشتباه ولا أدنى شك هل الذي رأوه هو الله أو غيره كما لا يشك مبصر القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب أن الذي رآه هو القمر ففي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) رواه مسلم.
 
وقال الإمام المجتهد أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه المتوفى سنة 150 هـ أحد مشاهير علماء السلف إمام المذهب الحنفي ما نصه (والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة) ذكره في الفقه الأكبر، انظر شرح الفقه الاكبر لملا علي القاري ص 136 و 137، وقال رضي الله عنه في كتابه الوصية (ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق).
 
وفي كتاب توضيح العقيدة وهو مقرر السنة الرابعة الإعدادية بالمعاهد الأزهرية بمصر ما نصه (فنراه تعالى منـزَّهاً عن الجهة والمقابلة وسائر التكيفات، كما أنّا نؤمن ونعتقد انه تعالى ليس في جهة ولا مقابلاً وليس جسما) وفي كتاب العقيدة الإسلامية الذي يدرّس في دولة الإمارات العربية ما نصه (وأنه تعالى لا يحل في شىء ولا يحل فيه شىء، تقدس عن أن يحويه مكان، كما تنـزه عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان) وفيه أيضا ما نصه (وإن عقيدة النجاة المنقذة من أوحال الشرك وضلالات الفرق الزائفة هي اعتقاد رؤيته تعالى في الاخرة للمؤمنين بلا كيف ولا تحديد ولا جهة ولا انحصار).
 
وفي كتاب العقيدة المرشدة (1) التي اشتهرت باسم عقيدة ابن عساكر، وجاء في هذه العقيدة قوله في حق الله تعالى (موجود قبل الخَلق ليس له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كلٌ ولا بعضٌ، ولا يقال متى كان ولا أين كان ولا كيف كان، كان ولا مكان كوّن المكان ودبّر الزمان، لا يتقيّد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان).
 
وقال قاضي الصحراء أبو بكر (2) محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (ت 489 ھ) في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له).
وقال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (3) المالكي البجائي الجزائري (المتوفى سنة 768 هـ) في مقدمته (المقدمة الوغليسية) قال في تنزيه الله تعالى ما نصه (ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، منزه عن التركيبات والتحديدات والتقديرات وعن صفات المتحيزات ولواحق المحدثات، وهو خالق الموجودات وما يجري عليها من التبديلات والتغييرات، واحد لا شريك له (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
 
العالم الليبي الشيخ حسن ابن الحاج عمر السيناوني (4) المالكي (المتوفى سنة 1347 ھ) في كتابه الأصل الجامع لإيضاح الدرر المنظومة في سلك جمع الجوامع قال في حق الله تعالى ما نصه (ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لأنه تعالى منزه عن الحدوث لأنه واجب الوجود لذاته وهذه حادثة (أي الجسم والجوهر والعرض) وقال أيضًا (هو موجود وحده سبحانه قبل المكان والزمان فهو منزه عنهما).
 
(1) قول الإمام المهدي في تنزيه الله عن المكان والزمان، يقول إبن عرفة وهو من كبار علماء المغرب العربي وما أحسن قول الإمام المهدي أي ابن تومرت في عقيدته حيث قال (ولا يقال متى كان ولا أين كان ولا كيف كان، كان ولا مكان كوّن المكان ودبّر الزمان، لا يتقيّد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان)، وصاحب العقيدة المرشدة هو ابْنُ تُوْمَرتَ وهو أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِي، مَاتَ فِي ءاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَنسب العقيدةَ المرشدة إلى ابن تومرت الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء ج 19-540 – 541، وعمر كحالة في معجم المؤلفين ج 1 0- 206، وابن كثير في تاريخه ج 12 – 231، والبرزلي في نوازله ج 6 – 366، وغيرهم، وقد انتشرت العقيدة المرشدة في بلاد المغرب واشتهر أمرها وتلقاها العلماء بالشرح والتعليق.
(2) في القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء كان رجلا نبيها عالما وإماما في أصول الدين وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
(3) اعتنى أهل العلم بكتاب المقدمة الوغليسية فتجلى ذلك في ما سجَّلته كتب التراجم والفهارس من شروح عليها حيث تهافت العلماء لشرحها مما ساعد على شهرتها وانتشارها وكانت وفاة الشيخ أبي زيد الوغليسي في سنة 786 هـ وقد تم دفنه في بجاية في الجزائر ومن تلاميذه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن رحمهما الله ونفعنا ببركاتهم ءامين.
(4) الشيخ حسن ابن الحاج عمر السيناوني تنحدر أصوله من بلدة سِيناوِن التي تقع غرب ليبيا قدم إلى جامع الزيتونة في تونس وبقي فيه لمدة تربو على أربعين عاما حافلة بطلب العلم والتدريس أفاد وأجاد وانتفع به من درسوا على يديه منهم أعلام من أهم علماء شمال إفريقية كما تولى وظائف في القضاء وإمامة جامع الزّينونة.