إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال السائل: ما هي فائدة العرش ولم خلقه الله
 
الجواب:
قال سيّدنا علي رضي الله (إنّ الله خلق العرش إظهاراً لقدرته ولم يتّخذه مكاناً لذاته) رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي، الملائكة الذين هم حوله والذين هم حاملو هذا العرش الذين هم في عُظْم الخلقة لا مثيل لهم بين عباد الله تعالى، أحدهم ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام بخفقان الطير المسرع فهؤلاء يزدادون تعظيماً لربّهم وإيقاناً بكمال قدرته لمّا يرون هذا العرش.
 
قال السائل: المخلوقات المرئية بالنسبة للإنسان هي دليل على عظمة الخالق أكثر من الأشياء الغير مرئية كالعرش مثلاً.
 
الجواب:
كل ما نراه دليل على قدرة الله ووجوده لكن بعض الأشياء أعظم دلالة على ذلك من بعض، هؤلاء الملائكة لما ينظرون إلى ذلك الجِرم العظيم يزدادون إيقاناً بكمال قدرة الله، هم موقنون لو لم يروا العرش هم موقنون بكمال قدرة الله لكن في رؤيتهم لذلك العرش لهم مزيد إيقان بكمال قدرة الله، وكذلك إذا مرّ عليه هذا الحديث (إنّ قلوبَ العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، لا يعتقد ان لله تعالى جارحة أي جسماً إنّما يحمله على المعنى الحسن وهو أنّ القلوب في قبضة الله تعالى لا تخرج عن مشيئته وإرادته هذا معروف عند العرب القدماء، العرب الفصحاء الذين نزل القرءان بلسانهم، أساليب اللغة التي هي من باب المجاز والكناية معروفة عندهم، معلومة لهم سليقةً وطبْعاً، ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه كان كثيراً ما يقول على المنبر هذين البيتين:
 
خفِّض عليك فإنّ الأمورَ **** بكفِّ الإله مقاديرُها
فليس بآتيكَ منهيُّها **** ولا قاصرٌ عنك مأمورها
 
خفض عليك ويروى هوّن عليك.
فإن الأمور بكف الإله مقاديرها.
 
هنا عمر بن الخطاب ما كان يفهم من كلمة بكف الإله أن الله تعالى جسم له كف بالمعنى العُرفيِّ الذي هو مألوف بين البشر، إنما المعنى الذي يفهمه من هذا أن الأمور في قبضة الله تعالى أي أن تقلّبات الأحوال التي قد تجري على العباد في قبضة الله تبارك وتعالى يتصرّف فيها كيف يشاء هذا معناه الذي كان يعتقده عمر ليس معنى التجسيم، ليس معناه أن الله تعالى له كف بمعنى الجارحة، الجارحة للعباد أما الخالق منزه عن الجوارح كما قال الطحاوي.
 
قال عمر فليس بآتيك منهيُّها معناه لا يأتيك أيها الإنسان الشىء الذي قدّر الله تعالى أن لا يصل إليك، الأمور التي أخطأتْك فإن الله تبارك وتعالى شاء أن لا تصيبَك، ولا قاصرٌ عنك مأمورها، أي لا بد أن تنال ما قدّر الله تعالى أنه يصل إليك فإذا كان الأمر هكذا هوّن عليك معناه لا تكثِّر همَّك كن واثقا بأن الله تبارك وتعالى يوصل إليك ما قدّر الله أن يصل إليك وكن عالماً وجازماً بأنه لا يصل إليك ما لم يشأ الله تعالى أن يصل إليك.
 
يستحيل عقلا أن يكون العرش مقعدًا لله فكيف يكون الرب الذي هو خالق للعرش وغيره محمولا على سرير يحمله الملائكة على أكتافهم، ولا يصح تفسير قول الله تعالى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طٰه 5] بجلس لأن الجلوس من صفات البشر والجن والملائكة والدواب بل معنى قول الله تعالى ﴿اسْتَوَى﴾ قهر لأن القهر صفة كمال لائق بالله تعالى لذلك وصف الله نفسه فقال ﴿وَهُوَ الْوٰحِدُ الْقَهَّــٰرُ﴾ [سورة الرعد 16] فهذا العرش العظيم خلقه الله إظهارًا لعظيم قدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته لأن المكان من صفات الخلق والله سبحانه تنزه عن المكان والزمان، قال الإمام الطحاوي رضي الله عنه (لا تحويه (أي الله) الجهات الست كسائر المبتدعات)، وقال سيدنا علي رضي الله عنه (إنَّ الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته)، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي، فالملائكة الكرام الحافون حول العرش والذين لا يعلم عددهم إلا الله يسبحون الله تعالى ويقدسونه ويزدادون علمًا بكمال قدرة الله سبحانه وتعالى عندما يرون هذا العرش العظيم.
 
ولزيادة الفائدة نقول:
العَرْشُ بِشَكْلِ سَرِيْرٍ بِالإِجْمَاعِ، وَالأَسِرَّةُ عَادَةً مُرَبَّعَةٌ، فِي شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُوْمِ الدِّيْنِ يَقُوْلُ: كُلُّ قَوْلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى (أَيْ بِمِقْدَارٍ) فَهُوَ كُفْرٌ.
 
مَعْنَى قَوْلِهِ القَوْلُ الَّذِي فِيْهِ أَنَّ اللهَ مُرَبَّعٌ أَوْ مُخَمَّسٌ أَوْ مُسَدَّسٌ أَوْ مُسَبَّعٌ أَوْ مُثَمَّنٌ فَهُوَ كُفْرٌ.
 
هَذَا مُرْتَضَى الزَّبِيْدِيُّ كَانَ فِي الحَدِيْثِ بَحْرًا وَفِي اللُّغَةِ، إِلَى الآنَ مَا جَاءَ مِثْلُهُ (أَيْ مُنْذُ زَمَانِهِ)، الإِنْسَانُ يَعْجَبُ كَيْفَ أَلَّفَ هَذِهِ المُؤَلَّفَاتِ وَفِيْهَا هَذِهِ النُّقُوْلُ الكَثِيْرَةُ. شَرْحُ الإِحْيَاءِ اثْنَا عَشَرَ مُجَلَّدًا وَشَرْحُ القَامُوْسِ عِشْرُوْنَ سَلِسُ العِبَارَةِ فِي النَّظْمِ وَفِي النَّثْرِ كَذَلِكَ.