إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

معنى تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
 
إنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ لَما رأى نعمةَ اللهِ عليهِ قد تـمَّتْ وشَـمِلَهُ مَعَ أَبيهِ وأَهلِهِ قد اجتمَعَ وفَتَحَ عليهِ مِنْ خَزائنِ رحـمتِهِ ما فَتحَ، مِنْ بعدِ ما أَفسدَ الشيطانُ بينَهُ وبينَ إِخوتِهِ بـما فعلوا مِنْ تلكَ الأفاعيلِ الخسيسةِ، أثنى على ربِّهِ بما هو أَهلُهُ واعترفَ لهُ بعظيمِ إِحسانِهِ وفضلِهِ إذ أخرجَهُ مِنَ السجنِ بعدَ الـهَمِّ والضيقِ والحُزنِ وجعلَهُ مَلِكًا وحاكِمًا نافِذَ الكلمةِ وسألَهُ أنْ يتوفَّاهُ ويُـمِيتَهُ على الإسلامِ الذي فيهِ السعادةُ الأَبديةُ في الآخرةِ.
 
سألَ اللهَ تباركَ وتعالى: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [101 -سورة يوسف].
 
{رَبِّ} أي يا ربُّ خالقِي ورازقِي ومالكَ أَمْرِي ومعبودِي الذي ليسَ لي معبودٌ سِواهُ، {قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} و”مِن” فيهِما للتبعيضِ إذ لم يُؤْتَ إلا بعضَ مُلكِ الدُّنيا إذ أصبحَ ملِكًا لـمصرَ فقط، وبعضَ {تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي تعبيرِ الرُّؤَى.
 
{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقَهُما على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ. {أَنْتَ وَلِيِّي} أي مُتَوَلِّي أَمْرِي “ فِي” الدَّارَينِ {الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}. ثُمَّ طلبَ الوفاةَ على حالِ الإسلامِ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي إذا حانَ أجلي اقْبِضْنِي إليكَ مُسْلِمًا، اجْعَلْنِي مُسْتَمِرًّا على الإسلامِ إلى ءاخِرِ لحظةٍ في حياتي {وَأَلْحِقْنِى بالصالحِينَ} معناهُ واجعَلْ لَحاقِي بصالحِ ءابائِي إبراهيمَ وإسحاقَ ومَنْ قبلَهُم مِنْ أَنبيائِكَ ورُسُلِكَ عليهِمُ السلامُ.
 
فقولُ يُوسُفَ عليهِ السلامُ “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا” كقولِ يَعقُوبَ عليهِ السلامُ لولدِهِ {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة – 132] وإنما دعا بِهِ يُوسُفُ عليهِ السلام ليقتدِيَ بِهِ قَوْمُهُ ومَنْ بعدَهُ مـمن ليسَ بـمأمونِ العاقبةِ. لـهذا الغرضِ طلبَ مِنَ اللهِ أنْ يَتَوَفَّاهُ مُسلمًا مَعَ أَنَّهُ شَىءٌ لا شَكَّ فيهِ، كما نقولُ في كُلِّ صلاةٍ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6 – سورة الفاتحة].
ثُمَّ أَلَيسَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يقولُ في كُلِّ صلاةٍ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6سورة الفاتحة] مع أنَّهُ كانَ مُهْتَدِيًا قَبلَ ذلكَ قبلَ نزولِ الفاتحةِ؟! ومعنى قولِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6 – سورة الفاتحة] أَكْرِمْنَا باستدامةِ الهدايةِ على الإسلامِ. هو الرسولُ عليهِ السلامُ كانَ مُؤْمِنًا مِنْ أَوَّلِ نشأَتِهِ إنـما الـمرادُ الثباتُ على الهُدى، وإنما التَثبيتُ على الشىءِ الحاصلِ وليسَ على شىءٍ لم يَحصُلْ. كما كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقولُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُونٌ عَليهِ ولكِنْ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ: “اللَّهمَّ يا مُقَلبَ القَلوبِ ثَبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ” رواهُ البيهقيُّ.
 
واستجابَ اللهُ تعالى دُعاءَ يُوسُفَ عليهِ السلامُ فلَمْ يَلْبَثْ إلا قليلًا حتى وافاهُ الأَجلُ فارْتَحَلَ والْتَحَقَ بآبائِهِ وصالحِي إِخوانِهِ فسلامُ اللهِ عليهِ وعلَيهِم وعلى كُلِّ المرسَلِينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.
 
اللَّهُمَّ إنَّا ءَامَنَّا بِكَ وبملائِكَتِكَ وبِرُسُلِكَ فَثَبِّتْنا على الصراطِ المستقِيمِ والهَدْيِ القَوِيمِ.