إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
ذِكر الرحالة محمد بن أحمد بن جُبير الكناني الأندلسي (توفّي 614 هجرية) للإحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
من أقدم المصادر التي ذُكر فيها الاحتفال بذكرى المولد هو كتاب رحلة ابن جبير (ص 114 – 115) قال ما نصه (يفتح هذا المكان المبارك (أي منزل النبي صلى الله عليه وسلم) ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي صلى الله عليه وسلم). انتهى
وقد دخل ابن جبير مكة في عام 16 شوال 579هـ ومكث أكثر من ثمانية أشهر وغادرها الخميس الثاني والعشرون من ذي الحجة 579هـ متوجهاً إلى المدينة المنورة كما هو مذكور في رحلته.
فكان الإحتفال في شهر ربيع الأول في يوم مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم هو عمل المسلمين قبل قدوم ابن جبير إلى مكة والمدينة وكان يحتفل به أهل السنة في أرض الله المكرمة، وما ذكر عن صاحب إربل الملك المظفر كان أول من أظهر الاحتفال بالمولد وتوسع فيه.
وابن جُبير قال عنه لسان الدين بن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة كان أديباً بارعاً وشاعراً مجيداً سري النفس كريم الأخلاق أنيق الخط.
ولزيادة الفائدة نقول:
أهل السنة يحتفلون بمولد من أرسله الله رحمة للعالمين فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد التحريم فإن الاحتفال بذكرى مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين بقراءة شىء من القرءان وذكر شىء من الشمائل النبوية الشريفة أمر فيه بركة وخير عظيم إذا خلا هذا الاحتفال عن أصناف البدع القبيحة التي لايستحسنها الشرع الشريف.
وليعلم أن تحليل أمر أوتحريمه إنما هو وظيفة المجتهد كالإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم وعن سائر السلف الصالح، وليس لأي شخص ألّف مؤلفاً صغيراً أو كبيراً أن يأخذَ وظيفة الأئمة الكرام من السلف الصالح فيُحلل ويحرّم دون الرجوع إلى كلام الأئمة المجتهدين المشهود لهم بالخيرية من سَلف الأمة وخلَفها، فمَن حرم ذكر الله عز وجل وذكر شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مولده عليه السلام بحجة أن النبي عليه السلام لم يفعله فنقول له:
هل تحرّم المحاريب التي في المساجد وتعتقد أنها بدعة ضلالة؟!
وهل تحرّم جمع القرءان في المصحف ونقطه بدعوى أن النبي لم يفعله؟!
فإن كنتَ تُحرّم ذلك فقد ضيقتَ ما وسع الله على عباده من استحداث أعمال خير لم تكن على عهد الرسول، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن سَنّ في الإسلام سُنةً حسَنَةً فلَهُ أجرُها وأجْرُ مَن عَملَ بها بعده من غيرأنْ ينقُصَ من أُجورهم شىء) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقال سيدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه بعدما جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح (نِعْمَ البدعة هذه) رواه الإمام البخاري في صحيحه.
ومن هنا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه (المُحدثـات من الأمور ضربان أحدُهما ما أُحدث مما يُخالفُ كتابـاً أو سُنةً أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضـلالة والثانيـة ما أُحدثَ من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه مُحدثةٌ غير مذمومة) رواه الحافظ البيهقي في كتاب مناقب الشافعي ج 1 ص 469.
ومَن شاءَ فلينظُر ما ذكرَهُ الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله من أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعةٌ حسنة ولا تصحُ فتوى من أفتى بأن الاحتفالَ بذكرى المولد بدعةٌ محرمةٌ لما تقدم من الأدلة ومثل ذلك ذكرَ العلماء الذين تُعْتَمَدُ فتواهم كالحافظ ابن دحية والحافظ العراقي والحافظ السخاوي والحافظ السيوطي والشيخ ابن حجر الهيتمي والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق والشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي المالكي والشيخ مصطفى نجا مفتى بيروت الأسبق وغيرهم كثير.
ولاعبرة بكلام من أفتى بخلاف قولهم لأنه ليس كلام مجتهد والعبرة إنما هي بما وافق كلام العلماء المعتبرين والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يردالتحريم ودين الله يُسْرٌ وليسَ بعُسْرٍ والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
نسأل الله أن يجمعنا وإياكم على نشر الخير ويفيض علينا من بركات النبي محمد صلى الله عليه وسلم.