إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحَمدُ للهِ ربّ العَالَمِينَ وصَلّى اللهُ على سَيّدِنا محَمّدٍ أمّا بَعدُ، فقد قال الإمامُ المفسِّر فخرُ الدِّين الرّازي (ت 606 هـ) في تَفْسِيرِه ما نصُّه (مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِلَهَ جِسْمٌ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْإِلَهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالٍّ فِي الْجِسْمِ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُجَسِّمُ هَذَا الْمَوْجُودَ فَقَدْ أَنْكَرَ ذَاتَ الْإِلَهِ تَعَالَى، فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْمُجَسِّمِ وَالْمُوَحِّدِ لَيْسَ فِي الصِّفَةِ (فَحَسْبُ) (1) بَلْ فِي الذَّاتِ، فَصَحَّ فِي الْمُجَسِّمِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ باللَّه).
 
ونقول:
القَولُ الحَقُّ تَكفِيرُ المجَسّمَةِ فقَد ثَبَتَ عن الأئمّةِ الأربَعَةِ ذلكَ أبي حَنِيفَةَ ومَالِكٍ والشّافعِيّ وأحمَد والإمامِ أبي الحَسَن الأشعَريّ والإمام أبي مَنصُورٍ الماتُرِيديّ وأَشَدُّهُم في ذلكَ مَالِكٌ فقَد رَوى عنه الإمامُ المجتَهِدُ ابنُ المنذِر أنّهُ قالَ على أنْ يُستَتابَ أهلُ الأهواءِ فإنْ تَابُوا وإلا ضُرِبَت أعنَاقُهُم، أهلُ الأهواءِ هُمُ الذينَ ابتَدَعُوا في الاعتقادِ، المعتزلةُ والمشَبّهَةُ المجَسّمَةُ والجَبريّةُ إلى ءاخِر فِرَقِهم.
 
فقد قالَ الإمامُ أحمَدُ بنُ حَنبَل (مَن قالَ اللهُ جِسمٌ لا كالأجسَام كَفَر) نقَلَ ذلكَ عَنهُ بَدرُ الدّين الزّركَشيّ وصَاحِبُ الخِصَالِ الحَنبَلِيّ، وقالَ الشّافعِيُّ (لا يُكَفَّرُ أهلُ القِبلَةِ واستَثنى المجَسّم) قَالَه السُّيُوطيّ في كتابِ الأشبَاه والنّظَائر، وقالَ أبو حَنِيفَةَ (2) (مَن اعتَقدَ حُدوثَ صِفَةٍ مِن صِفاتِ اللهِ أو شَكَّ أو تَوقَّفَ كَفَر) وَذَلِكَ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةُ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ وَذَلِكَ فِي شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الثَّانِي، قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ اخْتِلافِ النَّاسِ فِي نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ.
 
وقَد تَسَاهَلَ النّاسُ اليَومَ في أَمرِ المشَبّهَةِ مَع أنّهم يُصَرّحُونَ بتَكفِير غَيرِهم كَائِنًا مَن كَانَ، أَعني مُشَبّهَةَ العَصرِ الوهّابيّة، وكَثِيرٌ مِنهُم لأجلِ المالِ يَمدَحُونَهم وهؤلاءِ بَاعُوا الآخِرَةَ بالمالِ وأمّا مَا يُعزَى إلى ابنِ عبدِ السّلام منَ القَولِ مِنْ عَدَم تَكفِيرِ الجِهَوِيّةِ الذينَ يُثبِتُونَ تَحيُّزَ اللهِ في جِهةِ فَوقٍ فَلا اعتِدَادَ بهِ لأنّ هَذا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الشّافعِيُّ وعِزُّ الدّينِ ابنُ عبد السّلام مِن مُتَأخّري الشّافعِيّة.
 
كيفَ لا يُكَفَّرُونَ وهُم يُكَفّرُونَ جمِيعَ الأُمّةِ أي مَن ليسَ مِنهُم بل يُكَفّرُونَ الأشعَريّةَ والماتريديّةَ وهم الأمّةُ المحَمَّدِيّة.
 
فالوهّابِيّةُ يُجَسّمُونَ تَجسِيمًا صَريحًا وإن قَالوا في بعضِ الحالاتِ للهِ استِواءٌ على العَرشِ بِلا كَيفٍ ولهُ وَجْهٌ ويَدٌ وعَينٌ بلا كَيفٍ لكن هم يَعتَقِدُونَ الكَيفَ إنّما يَقُولُونَ ذلكَ تَمويهًا على النّاسِ ليُوهِمُوا النّاسَ أنّهم على مَذهَب السّلَف الذينَ قَالوا هَذا القَول، فبِتَرك تَحذِير المشَايِخ مِنهُم اتّسَعُوا وانتَشَرُوا ثم إنّهُ ثَبَت عن السّلَف قَول (يا محمّد) في حَالِ الشّدّةِ وقَد ثَبَت بإسنادٍ صَحِيحٍ أنّ الصّحَابةَ كانَ شِعَارُهم في حَربِ المرتَدّينَ الذينَ قَاتَلُوا مع مُسَيلِمَةَ الكَذّاب يا محَمّدَاهُ وكانَ أَمِيرُ أولئكَ خَالدُ بنُ الوَليد رضيَ اللهُ عنه، فَهُم كَفّرُوا السّلَفَ والخَلَف الصّحَابةَ ومَن جَاءَ بَعدَهُم كَيفَ لا يكفّرُون، وجَسَّمُوا اللهَ تَجسِيمًا صَريحًا، قالَ بَعضُهم في الحِجَاز (إنّ اللهَ يضَعُ قَدَمَهُ في جهَنَّمَ عندَما تَقُولُ هَل مِن مَزيدٍ فَلا تَحتَرقُ) فكَيفَ يُسكَتُ عن تَكفِيرِ هؤلاء وهم قَد كفّرُوا السّلَفَ والخَلَف، وقَد قالَ مدَرّسُهم في المدينةِ المنَوَّرَة ثلاثةُ أربَاع المسلمِينَ كُفّار، وءاخَرُ قالَ يَا مُسلِمُونَ لا تُفسِدُوا حَجَّكُم بزيارَة قَبرِ محَمَّد، وقَد ثَبَتَ حَديثًا أنّ الرّسُولَ قال (يَنزِلُ عِيسَى ابنُ مَريمَ حَكَمًا مُقسِطًا ولَيَأتِيَنَّ قَبْرِي حتى يُسَلّمَ عَلَيَّ ولَأرُدَنَّ علَيهِ السَّلام).
 
عن عطاء مولى أم حبيبة قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَيَهبِطَنَّ عِيسَى بن مَريَم حَكَمًا عَدلا وإمَامًا مُقسِطًا ولَيَسْلُكَنَّ فجًّا حَاجًّا أو مُعتَمِرًا أو بنِيّتِهما وليَأتِيَنَّ قَبرِي حتى يُسَلّمَ ولأَرُدَنَّ علَيهِ) رواه الحاكم.
 
فمَا أَعظَمَ فِتنَةَ المال، لأجْلِ المالِ سَكَتَ خَلقٌ كَثِيرٌ عن التّحذِير مِنهُم، الرّسولُ علَيهِ السّلام قال (إنّ فِتنَةَ أُمَّتِي المَال) رواه الترمذي، وقَد قَالَ بَعضُ أئمّةِ التّابعِينَ (إذَا رأَيتَ العَالمَ يُحِبُّ المالَ فَاتَّهِمْهُ على دِينِكَ) قَالَهُ عَبدُ اللهِ بنُ محَمَّد الهرري، هؤلاءِ يَنطَبِقُ علَيهِم قولُ رسولِ الله (تَعِسَ عَبدُ الدّينَارِ تَعِسَ عَبدُ الدّرْهَم) رواه البخاري ومسلم والبيهقي والطبراني وابن ماجه وابن حبان والبزار.
 
(1) إذا قُطِعَتْ لَفْظةُ (حَسْب) عنِ الإضافةِ ونُوِيَ مَعْنَى الْمُضافِ إليهِ المحذوفِ فإنّ (حَسْبُ) تُبْنَى في هذَا الاستِعْمالِ علَى الضَّمّ، تَقُول قَرَأتُ ثَلاثةَ أَجزاءٍ مِن القُرءانِ فَحَسْبُ، فالفَاءُ زَائِدةٌ وَحَسْبُ مُبتدأٌ مَبنيٌّ علَى الضَّمِّ فِي محل رَفْعٍ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، والتَّقدِيرُ فَحَسْبُ الثَّلاثةِ مَقْرُوءٌ.
 
قال الإمامُ ابن مالِكٍ النَّحْوِيُّ في ألفِيَّتِه:
 
واضْمُم بِنَاءً غَيْرًا انْ عَدِمْتَ مَا *** لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِما
قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ *** وَدُوْنُ والجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ
 
(2) قَالَ الإِمَامُ أبو حَنِيفَةَ رضي اللهُ عَنهُ في كِتَابِهِ الفِقهِ الأَكبَرِ (وَصِفَاتُهُ تعالى في الأَزَلِ غَيرُ مُحدَثَةٍ وَلا مَخلُوقَةٍ، وَمَن قَالَ إِنَّهَا مُحدَثَةٌ أَو مَخلُوقَةٌ أَو وَقَفَ فِيهَا أَو شَكَّ فِيهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاللهِ تعالى).