إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

مِنَ الأمور المهمّةِ مَعرفةُ تَعريف الغِيبةِ أي ما هيَ الغِيبَةُ التي حَرّمَها الله تعالى

 

الغِيبةُ التي حَرّمَها الله تَعالى فَسّرها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه (أتَدرُونَ ما الغِيبة) قالوا الله ورسوله أعلم قال (الغيبةُ أن تَذكُرَ أخَاكَ بما يَكره) قيلَ أفرأَيتَ يا رسولَ الله إن كانَ في أخي ما أقولُ قال (إنْ كانَ فيهِ فقَد اغْتَبتَهُ وإن لم يكنْ فيهِ فَقَدْ بهَتَّه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

 

المعنى أنّ ذِكْر المسلِم أي في خَلفِه بما يَكرَهُ غِيبةٌ حَرّمها اللهُ تعالى بقوله (ولا يَغتَبْ بَعضُكُم بَعضًا) هذِه الغِيبةُ التي نهانا اللهُ عنها فسَّرها الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم بقَولِه (ذِكرُكَ أخَاكَ بما يَكرَه)، هذه الكلمةُ الموجَزةُ التي قالها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم تَشمَلُ أشياءَ كثيرةً فذِكْرُ المسلِم في خَلفِه بما يَكرهُ لو سمعَهُ فهذه هي الغِيبَةُ المحرّمَةُ.

ثم الغِيبَةُ منها ما هوَ مِنَ الكبائر ومنها ما هوَ مِن صغائر الذّنوب.

 

الغِيبَةُ على قِسمَين صغائرُ وكبائر، غِيبَةُ المسلم المتّقي الدَّيّن مِنَ الكبائر أمّا غِيبَةُ المسلِم الفاسِق فلَيسَت مِنَ الكبائر بل مِنَ الصّغائر.

 

ثم هذه الغِيبةُ كما تحصُل بالنُّطقِ للعِبارة تحصلُ بالكِتابة، إذا إنسانٌ كتَبَ عن شخصٍ مسلِم إنّ فلاناً كذا مما يَكره، وصفَه بما يَكره هذا أيضًا حُكمُه كأنه ذَكرَه بلِسانِه، اغتابَهُ بلِسانهِ، لأنّ القلَمَ قيلَ عنهُ القَلمُ أحَدُ اللّسانَين، هذا الذي يَكتُب في شَخصٍ بما يَكره يكونُ كأنّهُ اغتابَه بلِسانِه، هذا إذا اغتَابَه بما فيهِ يكونُ غِيبَةً أمّا إذا اغتابَهُ بما ليسَ فيهِ يكونُ بُهتانًا يكونُ أعظَمَ ذَنبًا وأشَدَّ إثمًا.

 

بعضُ الناس مِن جَهلِهم يقولونَ إذا اغتَابُوا إنسانًا في خَلْفِه ذكَرُوه بما يَكرَهُ، فقِيلَ لهم الغِيبَةُ حَرام، يقولونَ أنا أقولُ هذا في وجْهِه.

 

فنحنُ نقولُ لو قلتُ لهُ في وجْهِه لا يكونُ ذلك حَلالا لأنّ إيذاءَ المسلِم حَرام إلا لأسبابٍ شَرعيّة، ومِنَ الأسباب الشّرعيّة التي تجعَلُ الغِيبةَ جَائزة التّحذير فإذا أردْنا أن نحَذّرَ شَخصًا مِنَ المسلِمين أو جماعةً، أرَدْنا أن نحذّرَهُم مِن شَخص غَشّاش في تجَارتِه يَبيعُ بضَائعَ فيها عَيبٌ ولا يَذكُر العَيب الذي فيها فهذا إذا ذكَرناه بما فيهِ قلنا فلانٌ يَغُشُّ الناسَ في بَيعِه يكونُ لنا ثَواب. كذلكَ إذا علِمنَا أنّ أنسانًا يَعمَلُ أجِيرًا عندَ إنسانٍ ونحنُ نَعلَمُ فيه خِيانةً في عَملِه فإذا قلنا لصَاحِب العَمل فلانٌ احذَرْه، فلانٌ خائن، لنَا ثوابٌ ما علَينا ذَنب ولو كانَ هذا الشّخصُ يَكره لو وقَعت هذِه الكلمةُ في أُذُنِه، نحن لنَا ثوابٌ لأننا عمِلنا الواجِبَ، تحذيرُ المسلِم مما يَضُرّه واجِبٌ ما فيهِ ذنبٌ ليسَ هذا غِيبةً محرّمَة.

 

الغيبةُ المحرّمَة هيَ التي تكونُ لغَير سبَبٍ شَرعيّ، بعضُ الجُهّال إذا أرادَ شخصٌ أن يحذّرَ مِن أحَد التّجار الغَشّاشينَ أو أحَدِ العُمّال الخائنِين يقولونَ كيفَ نَقطَعُ الرّزق على مخلوقٍ.

 

الرزّاقُ مَوجُود، صاحبُ العمَلِ الله يَرزقُه والعامِلُ الله يَرزقُه، كلٌّ في هذه الدّنيا يأكل ما كتَب اللهُ لهُ أن يأكل ويَتركُ ما سِوى ذلك لغَيره.

 

الذي يَعرف شَريعةَ الله لا يقول هذا قَطْعُ رِزْق كيف أتكلَّم على هذا الأجير الفَقير فأقول عنهُ هذا خَائن احذَرْهُ لصَاحب العمل، نحنُ نقولُ لصاحب العمَل هذا أجِيرُك خائنٌ، نقولُ هذا ليَحذَرهُ ثم إنْ لم يكنْ هو يَصرفُه عن هذا العَملِ بل يَرضى بهِ مع خِيانتِه فهو وشَأنُه، هذا الذي حَذّره كسَبَ أَجرًا عندَ الله ولو كانَ هذا الأجِير يَغضَب عليه إذا علِم أن فلانًا حَذّر صاحبَ العمَل منه.

 

المسلمُ عليهِ أن يحذّر المسلمَ ممن يضُرّهُ في دُنياه وبالأولى أن يحذّرَه ممن يضُرّه في دِينِه، أوْجَبُ وأَفرَض أن يُحذّرَه ممن يضُرّه في دِينِه.

 

فالتّحذيرُ ممن يحرّفُ شَريعة الله فرضٌ مؤكَّدٌ، يقولُ للشّخص فلانٌ ليسَ بأهلٍ للتّدريس لا تأخُذ منه لا تَذهَب إلى دَرسِه، فَرضٌ أن يحذّرَه فمَن لم يفعلْ وتَركَ الناسَ يَذهَبُون إلى ذلك الشّخص ويتَعلّمُوا منه ما هو غيرُ صَحيح في دينِ الله بل هوَ أفتراءٌ على دِين الله، فقَد غَشّهُم.

 

أمّا إذا حَذّر ثم ذلَكَ الإنسان إن سمعَ التّحذير فانقَطع عن ذلك الإنسان فلَه، فلِنَفسِه، وإن سمع التّحذيرَ ولم يَترك ذلكَ الإنسان فعلَى نفسِه، هو ضَرَّ نفسَه، الذي حَذّر أخَذَ الأجرَ مِن الله تعالى لأنّ الله فرَضَ علَينا أن نحذّر المسلِمينَ ممن يضُرّهم في دِينِهم لا يُقال هذا عالم كيفَ يتَكلّم فيه، ولا ننظُر إلى رضى الناس أو غَضبِهم، رضيَ مَنْ رضِيَ وكرِهَ مَن كَرِهَ.

 

نحنُ علَينا بالبَيان والأجرُ مِنَ الله تعالى، والضّارُّ النّافعُ هو الله تعالى، في الحقيقةِ لا أحَدَ يَضرُّ ولا ينفَعُ على الحقيقةِ إلا الله، الله تعالى هو الذي ينفَعُ ويَضُرّ على الحقيقة، لا أحَدَ يضُرّ وينفَعُ على الحقيقةِ سِواه، لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله.

 

ومِن جملةِ ما يَدخُل في باب التّحذيرِ أنّنا إنْ علِمنا أنّ فُلانًا يُريدُ أن يُصادقَ فُلانةَ أو فُلانًا أو علِمنا أن فُلانةَ تُريدُ أن تُصادق فلانةَ فَرْضٌ علَينا أن نحذّر إنْ كانَ في الشّخصِ الآخَر ما يَستَوجِبَ التّحذيرَ فمَن لم يحذّر وسكَتَ قال لماذا أخَلّي هذا يتغَيّرُ خاطِرُه عليَّ فهو عندَ الله تعالى مَوزُور يَستحِقّ العَذاب أمّا الذي حَذّرَ فهو مأجُورٌ عندَ الله سواءٌ رضي عنه هذا الشّخص أو لم يرض عنهُ، كثيرٌ منَ الضَّلال يأتي مِنْ طَريقِ الصُّحْبَةِ، الشّابُّ قَد يكونُ بحالةٍ حسَنةٍ ثم إذا بهِ انقَلَب فيَصيرُ بعِيدًا مِن طَاعةِ الله تعالى والسّبَبُ في ذلك في كثيرٍ مِن الأحيانِ أنّه التقَى بشَخصٍ فاسِدٍ فصَحِبَهُ فأفسَدَه، كَم وكم مِنَ الناس كانُوا يُصَلّون ويُقيمُونَ الصّلاةَ ويؤمنونَ بالله ورسولِه ثم طَرأ علَيهم أن صَادَقُوا وصَاحَبُوا شَخصًا مُلحِدًا شُيوعيًّا فصاروا كافِرينَ بعد أن كانوا مسلِمينَ، بسبب إفسادِ ذلك الشَّخص الذي صاحبَه، فيجبُ التّحذيرُ وجُوباً مؤكَّدًا التّحذيرُ مِن كلّ إنسانٍ يضُرّ المسلِم في دِينهِ بطَريقِ الأَولى وكذلكَ التّحذيرُ مِن الذي يَضُرّ المسلمَ في دُنياه، التّحذيرُ مِنَ الفَريقَين فَرضٌ مؤكَّد.