إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
نفي الجلوس والتحيّز عن الله (من أقوال العلماء)
اعلموا رحمكم الله بتوفيقه أن الله تعالى خالق كلّ شئ ولا يحتاج إلى شئ من خلقه لا إلى العرش ولا إلى السماء ولا إلى المكان ولا إلى الجهات ولا إلى غير ذلك وكما كان سبحانه موجودا فى الأزل أي فيما لا بداية له بلا جهة ولا مكان لم يزل بعد خلقه الخلق العرش والسموات وغير ذلك موجودا بلا جهة ولا مكان لأن الله لا يتغيّر وليس حجما لطيفا كالضوء والملائكة ولا هو حجم كثيف كالإنسان والشجر وغير ذلك فلا يحتاج إلى جهة ولا إلى مكان.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التُونسي (توفّي 1393هـ) في التحرير والتنوير في تفسير قول الله تعالى ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ (وَإِضَافَةُ عَرْشٍ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ مِثْلُ إِضَافَةِ الْكَعْبَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَة﴾ [الْحَج 26]، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنِ السُّكْنَى فِي بَيْتٍ). انتهى
قال الإمام المفسِّر فخر الدين الرازي (توفّي 606هـ) في تفسيره (لَوْ كَانَ تَعَالَى جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ بِحَيْثُ يَجْلِسُ عِنْدَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ [والله تعالَى مُنَزَّهٌ عن أن يكون مُحْدَثًا أي مَخْلُوقًا]).
ثم قال: الْمُشَبِّهَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَكَانَ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَكَانٍ بَلْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا.
وثانيها أنَّ الجالسَ على العرش لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي يَمِينِ الْعَرْشِ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي يَسَارِ الْعَرْشِ فَيَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا (مِن جُزأين جزءٍ في يمين العرش وجزء في يَسارِه).
وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْمُؤَلِّفِ وَالْمُرَكِّبِ (الذي يُرَكِّبُه) وَذَلِكَ مُحَالٌ (على الله لأنه لا يُشبِهُ الخَلْقَ، فهو الخالِقُ لا يَحتاج إلى غَيرِه).
وَثَالِثُهَا أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْعَرْشِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ مَحَلَّ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَيَكُونُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي (أي لا يُمْكِنُهُ الانتقالِ) كَانَ كَالْمَرْبُوطِ (تَعالَى الله عن ذلك).
وَرَابِعُهَا هُوَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَإِنْ حَصَلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ فِي مَكَانِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ افْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ يُخَصِّصُهُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ.
وَخَامِسُهَا (ما معناه) أَنَّ قَوْلَهُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ﴾ [الشُّورَى 11] (يدُلُّ على) نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، (وإلا) فَلَوْ كَانَ جَالِسًا (على العَرْشِ كما يَقُول الْمُشَبِّهُ) لَحَصَلَ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي الْجُلُوسِ (لأنّ الإنس والجنّ وبعض البهائم يَجْلِسُون) فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَعْنَى الْآيَةِ (ويَصِيرُ المعنى) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ﴾ إِلَّا فِي الْجُلُوسِ وَإِلَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِلَّا فِي اللَّوْنِ.
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الْحَاقَّةِ 17] فَإِذَا كَانُوا حَامِلِينَ لِلْعَرْشِ (وعلى زَعْمِ الْمُشَبِّهِ) الْعَرْشُ مَكَانُ مَعْبُودِهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ حَامِلِينَ لِخَالِقِهِمْ ومَعْبُودِهم وذلك غيرُ مَعْقُولٍ لأن الخالق هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْمَخْلُوقَ أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَحْفَظُ الْخَالِقَ وَلَا يَحْمِلُهُ (والله تعالى منزَّهٌ عن الاحتياج لغيره وهو منزَّهٌ عن التحيُّز فوق العرش).
وَسَابِعُهَا (ما معناه) أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْمَكَانِ (إِلَهًا) (لَجازَ أن يكون) الشَّمْس وَالْقَمَر (إلهَيْنِ، وهُما) مَوْصُوفَانِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا.