إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
روى البيهقي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال (إنَّ أحدكم لَنْ يَخْلُصَ الإيمان إلى قَلْبِهِ حتى يَسْتَيْقِنَ يقيناً غيرَ شَك أن ما أصابَهُ لم يكُن لِيُخطِئَهُ وما أخْطأهُ لَم يكُن لِيُصيبَهُ ويُقِرَّ بالقدرِ كُلِّهِ) أي لا يجوزُ أن يؤمِنَ ببعضِ القدرِ ويكفُرَ ببعض.
معنى هذا الأثَر عن سيدنا علي أنهُ (لا يَتِمُّ الإيمانُ في قلْبِ أحدكم حتى يَسْتَيْقِنَ يقينًا غيرَ شَك) أي أن يعتَقِدَ اعتِقادا جازِمًا ما فيهِ شك (أن ما أصابَهُ لم يكُن لِيُخطِئَهُ) إن كان من الرِّزقِ أو المصائِبِ أو غير ذلك (وأن ما أخْطأهُ لَم يكُن لِيُصيبَهُ ويُقِرَّ بالقدرِ كُلِّهِ) أي يجِبُ على كُلِّ مسلِمٍ أن يؤمِنَ بأن كلّ ما يجري في الْكَوْنِ من خيرٍ أو شر، من عُسْرٍ أو يُسر، ومن حُلْوٍ أو مُر، كُلُّ ذلك بِخَلْقِ اللهِ ومشيئَتِهِ حدثَ وكان، ولولا أن اللهَ تعالى شاءَهُ وكَوَّنهُ وخلقَهُ لَما حصل، ومِن يَنسِبُ للهِ تعالى خَلْقَ الخيرِ دونَ الشرِّ فقد نسَبَ إلى اللهِ تعالى العجْز، تعالى اللهُ عن ذلك لأنه لو كان كذلك لَكانَ للعالَمِ مُدَبِّران، مُدّبِّرُ خيرٍ و مُدّبِّرُ شر، وهذا كُفرٌ وإشراك.
وهذا الرأيُ السَّفيهُ مِن جِهَةٍ أخرى يجعلُ اللهَ تعالى في مُلْكِهِ مغلوبا لأنه على حسَبِ اعتقادِهِ أنه تعالى أرادَ الخيرَ فقط فيكون قد وقعَ الشَّرُ من عَدُوِّهِ إبليسَ وأعوانهِ الكفارَ رغم ارادَةِ الله، ويكفُرُ مِن يعتَقِدُ هذا الرأيَ لِمُخالفَتِهِ قولهُ تعالى (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) أي لا أحدَ يمْنَعُ نَفاذَ مشيئته.
وروى الإمام أحمد في مُسنده وأبو داود وابن حبان عن ابن الدَّيْلَمي قال أتَيْتُ أُبَيَّ بن كعب (شيخ القُراء) فقُلت يا أبا المنذر إنه حدثَ في نفسي شيءٌ من هذا القدر فحَدِّثْني لعلَّ اللهُ ينفعني.
فقال أُبَيٌّ له (إنَّ اللهَ لوْ عذَّبَ أهل أرضِهِ وسماواتِهِ لَعذَّبَهُم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم ولو رَحِمَهُم كانت رحمتهُ خيراً لهم من أعمالِهم، ولو أنْفَقْتَ مِثلَ أحُدٍ ذهباً في سبيل الله ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حتى تُؤمِنَ بالقدر، وتعلمَ أن ما أصابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وما أخْطأكَ لم يكن لِيُصيبَك، ولو متَّ على غيرِ ذلك دخَلْتَ النار)، قال الدَّيْلَمي ثم أتيْتُ عبد الله بن مسعود فحدَّثَني مثل ذلك.
ثم أتيْتُ حذيفة بن اليمان فحدَّثَني مثل ذلك، ثم أتيْتُ زيد بن ثابت فحدَّثَني مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورد في اﻷثر الذي رواه الحاكم (إن اللهَ خلَقَ كُلَّ شيءٍ بقدر حتى العَجْزَ والْكَيْس، وإليهِ المشيئَةُ وبِهِ الْحَوْلُ والقُوَّة) ومعنى قوله (حتى العَجْزَ والْكَيْس) أي أن اللهَ تعالى هو الذي خلقَ العَجْزَ وهو الضَّعْفُ في الْفَهْمِ والإدراك ويقالُ العجزُ هو ضَعْفُ الهِمَّةِ وفُتورها، وهو خالق الكيْس والْكَيْس هو الذَّكاءُ والفطانة، ومعنى (وإليهِ المشيئَةُ) أي أن اللهَ تعالى لهُ المشيئةُ الشّامِلَةُ الأزليةُ الأبَدِيَّةُ التي لا تتَحَوَّلُ ولا تتغَيَّر، ومعنى (وبِهِ الْحَوْلُ والقُوَّة) فالْحَوْلُ هو التَّحَفُّظِ عن الشر، والقوةُ هي القُوةُ على فِعْلِ الخيرِ التي تَحْصُلُ من العباد.
ومعنى ذلك أن العبْدَ لا يستطيعُ أن يدْفعَ عن نَفْسِهِ شرّا ولا يستطيعُ أن يتحَرَّزَ عن سوءٍ وشَرٍ وفسادٍ ومعصيةٍ إلا بِعَوْنِ الله، ولا أحدَ يقْوى على طاعَةٍ وحسنَةٍ إلا بتقديرِ اللهِ ومشيئتِهِ وعِلمِهِ وتوفيقه.
فالذينَ وفَّقَهُم الله تعالى لِفِعْلِ الطّاعاتِ فعمِلوها فليس ذلكَ إلا بِعَوْنِ الله، فلولا مَعونَةُ اللهِ ما عمِلوا حسنة، فللهِ الفضْلُ والمِنَّة، هذا مِن خالِصِ التَّوحيدِ وجواهِر العِلم، فَيُعْلَمُ من هذا أنه لا يحدُثُ في العالَمِ شىءٌ إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يُصيبُ العبدَ شيءٌ من الخيرِ أو الشرِ أو الصِّحَةِ أو المرض أو الفقرِ أو الغِنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يُخْطِئُ العبدَ شىءٌ قدَّرَ اللهُ وشاءَ أن يُصيبَه، فقد ورد أن النبيَ عَلَّمَ بعضَ بناتِهِ (ما شاءَ اللهُ كانَ وما لم يشأ لم يَكُن) رواه أبو داود.
فمشيئَةُ اللهِ نافِذَةٌ في جميعِ مُراداتِهِ على حسبِ عِلمهِ بها، فَما عَلِمَ اللهُ كَوْنَهُ أرادَ كَوْنَهُ في الوقتِ الذي يكونُ فيه وما عَلِمَ أنهُ لا يكون لم يُرِدْ أن يكون، فأعمالنا التي سبقَ في عِلْمِ اللهِ أنها تكون شاءَ أن تكون، وما لم يشأِ اللهُ تعالى أن يكون فلا يدخُلُ في الوُجود.
فَمِنْ هنا يُعلَمُ أن الضَّميرَ في قولهِ تعالى (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) يعودُ إلى الله لا إلى العبد، بدليلِ قولهِ تعالى حِكايةً عن سيدنا موسى (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء) (الأعراف 155).
سيدنا موسى عليه السلام لَمّا ذهبَ لِميقاتِ ربهِ أي لِمُناجاةِ اللهِ أي لِسَماعِ كلامِ اللهِ الأزلي خَلَّفَ على قومهِ أخاهُ هارون وكان نبيًا، غابَ عنهم (أي سيدنا موسى) أربعينَ ليلةً ثم عادَ إليهم فوجدَهُم قد عبَدوا العِجلَ إلا بعضًا منهم وذلك بعدَ أن اجتازَ بهمُ البحرَ ورأوْا هذه المُعجِزَةَ الكبيرةَ وهيَ انفِلاقُ البحرِ إلى اثني عشر فِرقا كلُ فِرقٍ كالجبَلِ العظيم، وأنقذَهُم من فرعون، ثم فتنَهُم شخصٌ يُقالُ لهُ موسى السامِري صاغَ لهم عِجْلاً من ذهب، ووضعَ فيهِ شيئاً من أثَرِ حافِرِ فرَسِ سيدنا جبريل، لأنهُ عندما أرادَ فرعونُ أن يخوضَ البحرَ كان جبريلُ على فرس، هذا الخبيثُ رأى موقِفَ فرسِ جبريل فأخذَ منهُ شيئاً ووضعَهُ في هذا العِجلِ المُصَوَّرِ من ذهب، فجعل الله تعالى هذا العِجلَ فصارِ يَخورُ كالعجلِ الحقيقي، فقال لهم السامري هذا إلهكم وإلهُ موسى.
حملَهُم على عِبادَتِهِ فَفُتِنوا، فعبَدوا هذا العجل، فَلمّا أُخْبِرَ سيدنا موسى بذلكَ اغتاظَ على هؤلاءِ اغتياظًا شديدًا، ثم قال ما قالهُ ربنا في القرآنِ حِكايةً عنه (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء).
تنبيه مهم:
اغتاظ من الغيظ معناه غضب لله كما قال الفيومي في المصباح، وليس المعنى أن موسى كان عصبيا حاشا وكلا فإن هذا صفة نقص مستحيلة على اﻷنبياء الذين أرسلوا لتبليغ الدعوة.