إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

التَّوْقِيتُ الفَلَكِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ فِي المَذَاهِبِ الأربعة
 
الصِّيَامُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَهُ علَى البَالِغِينَ والبَالِغَاتِ العَاقِلِينَ أَي مِن ذَوِي العُقُولِ، وَقَد جَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ مَبْدَأً وَمُخْتَتَمًا، أَمَّا مَبْدَأُهُ فَهُوَ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَمَنْ لَم يَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ عَدَدَ شَعْبَانَ بِحَسَبِ الهِلَالِ اكْتَمَلَ ثَلاثِينَ يَوْمًا يَبْدَأُ، لأَنَّ الشَّهْرَ القَمَرِيَّ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ، الرَّسُولُ قَالَ (شَهْرٌ هَكَذَا وَشَهْرٌ هَكَذَا وَشَهْرٌ هَكَذَا)، فِي الثَّالِثَةِ خَنَسَ إِبْهَامَهُ، مَعْنَاهُ شَهْرٌ يَنْقُصُ يَوْمًا، إنْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَنْقُصُ يَوْمًا وَاحِدًا، يَكُوْنُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَي أَنَّ الشَّهْرِ القَمَرِيَّ الذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أُمُورُ العِبَادَاتِ أُمُورُ الحَجِّ وَأُمُورُ الصِّيَامِ وأُمُورُ الوَقْفَةِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ هُوَ الشَّهْرُ العَرَبِيُّ القَمَرِيُّ الذِي هُوَ مِنَ الهِلَالِ إِلَى الهِلَالِ، هذَا يُقَالُ لَهُ شَهْرٌ قَمَرِيٌّ، فَمَن رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيهِ أَنْ يَصُومَ وَلَو كَانَ هُوَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِنْسَانًا جَاهِلاً مُسْلِمًا فَاسِقًا، أمَّا إِذَا رَأَى شاهدان اثنان مُسْلِمان عَدْلان أَيْ دَيِّنان تَقِيّان يَشْهَدان عِنْدَ القَاضِي الشَّرْعِيِّ يَقُولا نشْهَدُ باللهِ أَنّنا رَأَيْنا هِلَالَ رَمَضَانَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، فَيُثْبِتُ القَاضِي الصِّيَامَ، يَحْكُمُ بِثُبُوتِ الصِّيَامِ، فَكُلُّ النَّاسِ الذِينَ بَلَغَهُم إِثْبَاتُ القَاضِي صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِم أَنْ يَصُومُوا كَأَنَّهُم رَأَوْا بِأَعْيُنِهِم، ثُمَّ فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ هذَا الحُكْمُ يَنْتَشِرُ إِلَى أَيِّ بَلَدٍ وَصَلَ إِلَيْهِ خَبَرُ الِإثْبَاتِ، يَنْتَشِرُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، كُلُّ النَّاسِ الذِينَ سَمِعُوا لَو كَانُوا فِي أَقْصَى الشَّرْقِ أَو فِي أَقْصَى الغَرْبِ لَا يَخْتَصُّ بالبَلَدِ الذِي شُوْهِدَ فِيهِ الهِلَالُ بَل يَعُمُّ، فَمَن بَلَغَهُ الإِثْبَاتُ مِن هؤُلَاءِ صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِم أَنْ يَصُومُوا، هذَا فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ.
فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَتَى مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أُثْبِتَ فِي بَلَدِ كَذَا هِلَالُ رَمَضَانَ عِنْدَ القَاضِي الشَّرْعِيِّ نَصُومُ أَمَّا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِذَا رُئِيَ الهِلَالُ فِي بَلَدٍ يَعُمُّ حُكْمُهُ البِلَادَ القَرِيبَةَ مِن هَذَا البَلَدِ، فالأَمْرُ بالنِّسْبَةِ للصِّيَامِ مَنُوْطٌ بِرُؤْيَةِ الهِلَالِ أَو بِاسْتِكْمَالِ عَدَدِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ يَوْمًا، وَعَدَدُ شَعْبَانَ اسْتِكْمَالُهُ أَيْضًا ثَلاثِينَ يَوْمًا يَكُونُ مُتَوَقِّفًا علَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَعْبَانَ وَلَيْسَ علَى التَّوْقِيتِ الفَلَكِيِّ، التَّوْقِيتُ الفَلَكِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ فِي المَذَاهِبِ الأربعة بَل وَغَيْرِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الفَلَكِيِّينَ وَقَوْلِ الرُّزْنَامَاتِ، الذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَيَبْدَأُ بِصِيَامِ رَمَضَانَ حَرَامٌ، الرُّزْنَامَاتُ لَا تُعْتَمَدُ فِي هذَا لأَنَّها خِلَافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ، الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) هَكَذَا قَالَ الرَّسُولُ، الرَّسُولُ هُوَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَيْسَ الرُّزْنَامَةَ وَفُلَانًا وَفُلانًا أَو فُلَانًا هُم أَصْحَابُ الشَّرْعِ وَلَا سِيَّمَا أَكْثَرُهُم فُسَّاقٌ هَؤُلاءِ الذِينَ يُخْرِجُونَ رُزْنَامَاتٍ.
اسْتِكْمَالُ هِلَالِ شَعْبَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً علَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَعْبَانَ لَيْسَ علَى حِسَابِ الفَلَكِيِّينَ، لَا يَجُوزُ الاعْتِمَادُ علَى قَوْلِ الفَلَكِيِّينَ لإِثْبَاتِ الصِّيَامِ والإِفْطَارِ أَيْ إِنْهَاءِ عَدَدِ صِيَامِ رَمَضَانَ، لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِم، لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِم وَلَا يُبْدَأُ الصَّوْمُ بِنَاءً علَى كَلامِهِم، فَنَحْنُ نَتَتَبَّعُ خَبَرَ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ بِبَلَدِ كَذَا أَثْبَتَ القَاضِي الشَّرْعِيُّ صِيَامَ رَمَضَانَ نَبْدَأُ.
وقد روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه في سننهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْمًا) وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ (صُومُوا لرؤيته وأَفْطِرُوا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) وفي رواية مسلم (صُومُوا لرؤيته وأَفْطِرُوا لـرؤيته فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُـدُّوا ثَلاَثِينَ) وفي روايـة لمسـلم (فصُومُوا لرؤيته وأَفْطِرُوا لرؤيته فإنْ أُغْمِيَ عليكم فاقدُرُوا لهُ ثلاثين) وروى الإمام مَالِكٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) قال أبو الوليد سليمان بن خلف القرطبي الباجي الأندلسي رحمه الله (ولَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ (وقبله الشافعيّ) يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ (الشاهد) الْوَاحِدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ أَصْلُ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) يُرِيدُ مَنَعَكُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ سَحَابٌ أَوْ غَيْرُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ غَمَمْتُ الشَّيْءَ إذَا سَتَرْتُهُ، فَاقْدُرُوا لَهُ يُرِيدُ قَدِّرُوا لِلشَّهْرِ، وَتَقْدِيرُهُ إتْمَامُ الشَّهْرِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ثَلَاثِينَ لِأَنَّ الشَّهْرَ إنَّمَا يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِالرُّؤْيَةِ فَأَمَّا بِالتَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثِينَ).
ثم قال رحمه الله (إن من خالف في ذلك فالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وإن من يَصُومُ وَيُفْطِرُ عَلَى الْحِسَابِ فإنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يُتَّبَعُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فإنه لَا يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ إلَى الرُّؤْيَةِ وَإكَمَالِ الْعَدَدِ، فَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ).