إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
سُورَةُ الْقَلَمِ مَكِّيَّةٌ وَهِىَ اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ ءَايَةً
بسم الله الرحمن الرحيـم
﴿ن وَالقَلـم وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بـمـجنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيـم (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمْ الـمفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلـم بـمنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهو أَعْلـم بِالـمهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعْ الـمكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيـم (11) مَنَّاعٍ للخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيـم (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلك زَنِيـم (13) أَنْ كانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عليه آيَاتُنَا قال أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ على الخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عليها طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كالصَّرِيـم (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنْ اغْدُوا على حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا اليومَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا على حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلـما رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قال أَوْسَطُهُمْ أَلـم أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالـمينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا منها إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كذلكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلـمونَ (33) إِنَّ للـمتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيـم (34) أَفَنَجْعَلُ الـمسْلـمينَ كَالـمـجرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لـما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيـمانٌ علينا بَالِغَةٌ إلى يومِ القِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لـما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُمْ بذلك زَعِيـم (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالـمونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بهذا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلـمونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمْ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لـما سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لـمـجنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالـمينَ (52)﴾.
مناسبة هذه السورة لـما قبلها أنه فيـما قبلها ذَكرَ اللهُ أشياءَ مِن أحوالِ السعداءِ والأشقياءِ، وذكرَ قدرته الباهرة وعلـمه الواسع، وأنه تعالى لو شاءَ لخسفَ بهم الأرضَ أو لأرسلَ عليهم حاصبًا، وكان ما أخبرَ اللهُ تعالى به هو ما تلقاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلـم بالوحي، وكان الكفارُ ينسبونه مرةً إلى الشعرِ ومرةً إلى السحرِ ومرةً إلى الجنونِ، فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءتِه صلى الله عليه وسلـم مِما كانوا ينسبونه إليه من الجنونِ، وتعظيـم أجرهِ على صبرِهِ على أذاهم وبالثناءِ على خُلُقه العظيـم، فقال عز وجل ﴿ن﴾ قرأ ابن كثير ونافع بخلف عن ورش وأبو عمرو وحمزة وحفص بإظهار النون أي بفك الإدغام من واو القسم، وقرأ ابن عامر والكسائي وشعبة وخلف ويعقوب بإدغام النون في الواو، وهو أحد حروف الهجاء، واللهُ أعلـم بـمراده به، ﴿والقَلـم﴾ الواو واو القسَمِ، أي يُقسِمُ ربُّنا عز وجل بالقلـم، والقلـم معروفٌ غير أن الذي أقسَم به ربنا منَ الأقلامِ القلـم الذي خلقَه اللهُ تعالى فأمرَهُ فجرى بكتابَةِ جميعِ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ منَ الآجالِ والأعمالِ والأرزاقِ وغيرها، ﴿وما يَسْطُرونَ﴾ أي وما يكتبون، والـمعنى ما تكتبُهُ الـملائكة الحفظة من أعمال بني ءادم.
﴿ما أنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِنِعمةِ ربِّكَ﴾ أي بسبَبِ نعمَةِ ربكَ عليكَ بالإيـمانِ والنبوةِ وغيرِهِما ﴿بـمـجنونٍ﴾ أخرجَ ابنُ الـمنذِرِ عن ابن جريج قال كانوا يقولونَ للنبي صلى الله عليه وسلـم إنه مـجنون شيطان، فنَزلت ﴿ما أنتَ بنعمةِ ربكَ بـمـجنونٍ﴾ أي وما أنت بإنعامِ ربكَ عليك بالإيـمانِ والنبوةِ بـمـجنون، ونِعَمُ اللهِ ظاهرةٌ عليك منَ الفصاحَةِ التامةِ والعقل الكاملِ والسيرَةِ الـمرضية والبراءَةِ منَ العيوبِ والأخلاقِ الحميدة، وفي ذلك ردٌّ وتكذيبٌ للـمشركينَ في قولهم إنه مـجنون.
﴿وإنَّ لكَ﴾ يا محمد ﴿لأجرًا﴾ أي ثوابًا من اللهِ عظيـما على صبركَ على أذى الـمشركينَ إياكَ فلا يـمنعُكَ ما قالوا عن دعاءِ الخلقِ إلى اللهِ تعالى ﴿غيرَ مـَمنونٍ﴾ أي غير منقوصٍ ولا مقطوعٍ.
﴿وإنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لعلى خُلُقٍ عظيـم﴾ روى مسلـم في صحيحه، كتاب صلاة الـمسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت (فإنَّ خُلُقَ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلـم كانَ القرءان)، والـمعنى إنكَ لعلى الخُلقِ الذي أمركَ اللهُ به في القرءانِ.
﴿فسَتُبْصِرُ﴾ أي فستعلم يا محمد ﴿ويُبْصِرونَ﴾ وسيعلمُ الـمشركونَ مِن أهلِ مَكةَ يومَ القيامَةِ وهذا وعيدٌ لهم.
﴿بِأيِّكُمُ الـمفتونُ﴾ في أي الفريقينِ الـمـجنونُ أبالفرقَةِ التي أنت فيها من الـمؤمنينَ أم بالفرقَةِ الأخرى، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿إنَّ ربَّكَ﴾ يا محمد ﴿هُوَ أعلمُ﴾ أي عالـم ﴿بـمنْ ضلَّ عن سبيلِهِ﴾ أي حادَ عن دينِهِ ﴿وهُوَ﴾ أي اللهُ ﴿أعلمُ﴾ أي عالـم ﴿بالـمهتَدينَ﴾ الذينَ هم على الهدى فيُجازي كُلا غدًا بعملِهِ.
﴿فلا تُطِعِ﴾ يا محمد وذلك أن رؤساءَ أهل مكةَ دعَوه إلى دينهِم ﴿الـمكَذِّبينَ﴾ الذينَ كذبوا بـما أَنزَلَ اللهُ عليك مِنَ الوَحي وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مـما كانوا يدعونه إليه من الكف عنهم ليكفّوا عنه ومن تعظيـم ما كانوا يعبدونه من دون الله وغير ذلك.
﴿وَدُّوا﴾ أي تَـمنوا ﴿لوْ تُدْهِنُ﴾ أي تلينُ لهم ﴿فيُدهِنونَ﴾ أي يلينون لك، ومعنى الآيةِ أنهم تَـمنوا أن تترك بعضَ ما أنت عليه مـِما لا يرضونَهُ مصانَعَةً لهم فيفعلوا مثل ذلك، ويتركوا بعضَ ما لا ترضى به فتَلينَ لهم ويلينوا لك.
﴿ولا تُطِعْ﴾ أي يا محمد ﴿كُلَّ حَلافٍ﴾ أي كلَّ ذي إكثارٍ للحلفِ بالباطِل ﴿مَهينٍ﴾ أي حقيرٍ في الرأي والتمييزِ، وقال بعضُهُم مهينٌ أي كذابٌ لأن الإنسانَ إنـما يكذِبُ لـمهانَةِ نفسِه عليه.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه (2) (اختُلفَ في الذي نزَلت فيه فقيلَ هو الوليدُ بنُ الـمغيرَة وذكره يَحيى بنُ سلام في تفسيره، وقيل الأسود بن عبد يغوث ذكره سنيد بن داود في تفسيره، وقيل الأخنس بن شريق وذكره السهيلي عن القتيبي، وحكى هذين القولين الطبري فقال يقال هو الاخنس، وزعم قوم أنه الأسود وليس به، وأبعد من قال إنه عبد الرحمن بن الأسود فإنه يصغر عن ذلك، وقد أسلـم، وذكر في الصحابة). اهـ
﴿هَمَّازٍ﴾ قال ابن عباس (هو الـمغتاب) والغيبة ذكرُكَ أخاكَ الـمسلـم بـما يكرَه مـِما فيه في خلفِه، وقد روى أبو داود في سننه (3) عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلـم (لـما عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قال هَؤُلاَءِ الذينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ).
﴿مَّشَّاءٍ بنميـم﴾ أي يـمشي بالنميمَةِ بينَ الناسِ ليُفسِدَ بينَهم، والنميمَةُ هي نقلُ القولِ للإفسادِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لا يدخُلُ الجنَّةَ قتَّاتٌ) رواه البخاري (4)، والقتاتُ هو النمامُ، ومعنى الحديثِ لا يدخُلُها مع الأولين.
﴿مَّنَّاعٍ للخَيْرِ﴾ الظاهرُ أن الخيرَ هنا يرادُ به العمومُ فيـما يطلقُ عليه خيرٌ، قاله أبو حيان، وقيل بخيلٌ الـمال، وقيل يـمنع ولده وعشيرتَهُ عن الإسلام يقولُ لهم من دخلَ منكم في دين محمد لا أَنفَعُهُ بشيءٍ أبدًا.
﴿مُعْتَدٍ﴾ أي على الناس في الظلـمِ متجاوزٍ للحدِّ صاحبِ باطلٍ ﴿أثيـم﴾ كثيرِ الآثامِ.
﴿عُتُلٍّ﴾ أي الغليظِ الجافي، وقيل الذي يعتُلُ الناسَ أي يحمِلُهُم ويجرُّهُم إلى ما يكرهونَ مِن حبسٍ وضَربٍ، وقيل الشديدُ الخصومَةِ بالباطِلِ، وقيل الفاحِشُ اللئيـم، وقيل الأكولُ الشروبُ الغشومُ الظلومُ.
﴿بعْدَ﴾ أي مع ﴿ذلكَ﴾ فهو ﴿زَنيـم﴾ والـمعنى مع ما وصَفَهُ اللهُ به من الصفاتِ الـمذمومَةِ فهو زنيـم، والزنيـمُ هو الدَّعيُّ في قريشٍ وليس منهم، وقيل هو الذي يُعرفُ بالشرِّ كما تُعرف الشاة بزنـمَتِها وهي الـمتدليَّةُ من أذنِها ومن الحلق. وروى البخاري (5) عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى ﴿عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيـم﴾ قال رجلٌ من قريشٍ له زنـَمةٌ مثلُ زنَـمة الشاة. اهـ
وروى البخاري (6) عن حارثَةَ بنِ وهبٍ الخُزاعي قال سـمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلـم يقول (ألا أخبركُمُ بأهلِ الجنَّةِ، كلُّ ضعيف مُتَضَعّفٍ لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ، ألا أخبركُم بأهل النار كلُّ عُتُل جوَّاظ مُستكبر) وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نزلت على النبي صلى الله عليه وسلـم ﴿ولا تُطِعْ كلَّ حلافٍ مهين* همَّازٍ مشاءٍ بنميـم﴾ فلم نعرفْهُ (أي للوليد بن الـمغيرة) حتى نزلَ عليهِ بعد ذلكَ ﴿زنيـم﴾ فعرفناهُ له زنـمة كزنـمة الشاةِ.
﴿أن كانَ ذا مالٍ وبَنينٍ﴾ قرأ ابنُ كثير، ونافعٌ، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم (أن كان) على الخبر، أي لأن كان، والـمعنى لا تطعهُ لـماله وبنيه، وقرأ ابن عامر بهمزتين الأولى مخففة والثانية ملينة، وفصَلَ بينهما بألف أبو جعفر، وقرأ حمزة (أأن كان) بهمزتين محققتين على الاستفهام، وله وجهان أحدهما لأن كان ذا مال تطيعه وهذا تقريع لهذا الحلاف الـمهين، والثاني ألأن كان ذا مال وبنين.
﴿إذا تُتْلى عليهِ ءاياتُنا﴾ أي القرءان ﴿قالَ أساطيرُ الأوَّلينَ﴾ أي قال أباطيلُهُم وترهاتُهم وخُرافاتهم، وهذا الذي قال إنـما هو استهزاءٌ بآياتِ اللهِ وإنكارٌ منه أن يكون ذلك من عندِ اللهِ.
ولـما ذكرَ قبائِحَ أفعالِه وأقوالِه ذكر ما يُفعلُ به على سبيلِ التوعدِ فقال تعالى ﴿سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ﴾ السمةُ العلامَةُ، والخرطومُ الأنفُ، والـمعنى سنبينُ أمرَهُ بيانًا واضحًا حتى يعرفوهُ فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمَّةُ على الخرطومِ، ويحتملُ أن يكونَ الـمعنى سنجعلُ على أنفِهِ علامَةً يُعيّرُ بها ما عاشَ، فخُطمَ بالسيفِ، يقال خَطَمَهُ إذا أثَّر في أنفِه جِراحَة، فجُمِعَ له مع بيانِ عيوبهِ للناس الخطمُ بالسيفِ، وقال ءاخرون لزمَهُ عارٌ لا ينمحي عنه ولا يفارقه.
﴿إنَّا بَلَوْناهُم﴾ يعني أهل مكة امتحناهم واختبرناهم، والـمعنى أعطيناهم أموالاً ليَشكروا لا ليبطروا فلـما بطروا وعادَوْا محمدًا صلى الله عليه وسلـم ابتليناهم بالجوعِ والقحط ﴿كما بَلَوْنا﴾ أي امتحنا ﴿أَصْحابَ الجنَّةِ﴾ أي أصحابَ البستانِ ﴿إذْ اقْسَموا﴾ وحَلفوا فيـما بينهم ﴿لَيَصْرِمُنَّها﴾ أي ليقطَعُنَّ ثَـمَرها ﴿مُصبحينَ﴾ أي وقتَ الصباحِ كي لا يَشعُرَ بهم الـمساكين فلا يُعطونَ ما كان أبوهم يتَصَدَّقُ به عليهِم منها.
﴿ولا يَسْتَثْنونَ﴾ أي لا يقولونَ إنْ شاءَ اللهُ بل عَزَموا على ذلك عَزمَ مَن يَـملِكُ أمرَهُ.
أما قِصةُ أصحابِ الجنَّةِ وهي البستانُ فقد ذَكرَ أهلُ التفسيرِ أن رجلاً كان بناحِيَةِ اليـمنِ له بستانٌ وكان مؤمنًا وذلك بعد سيدِنا عيسى بنِ مريـم عليه السلام، وكان يجعلُ عندَ الحصادِ نصيبًا للفقراء والـمساكين فكان يجتمعُ من هذا شيء كثير، فلـما ماتَ الأبُ ورثه ثلاثَةُ بنينَ له وقالوا والله إن الـمالَ لقليلٌ وإن العيالَ لكثير وإنـما كان أبونا يفعل هذا الأمر إذ كان الـمال كثيرًا والعيالُ قليلاً، وأما إذا قلَّ الـمالُ وكثرَ العيال فإنا لا نستطيع أن نفعلَ هذا، فعزموا على حِرمانِ الـمساكينِ وتحالفوا بينَهم يومًا ليغدُوَّنَ غدوة قبل خروجِ الناسِ لِيَقطعوا ثَـمَر البستانِ، فلـما أصبحوا وجدوهُ قد احترق وصار كالليلِ الأسود.
﴿فَطافَ﴾ أي طرقَ ﴿عليها﴾ أي الجنة وهي البستان ﴿طائِفٌ﴾ أي طارقٌ ﴿من ربِّكَ﴾ أي مِن أمرِ اللهِ ﴿وهُمْ نائِمونَ﴾ ومعنى الآيةِ أن اللهَ بعثَ على البستان نارًا فاحترقَ فصارَ أسود.
﴿فأصْبَحتْ﴾ فصارت جنتُهُم أي بستانُهم ﴿كالصَّريـم﴾ كالليل الاسود بسبب احتراق البستان، وقيل صارت كالرمادِ الأسودِ.
﴿فَتَنادَوا﴾ هؤلاء القومُ وهم أصحابُ الجنةِ أي دعا بعضهم بعضًا إلى الـمُضِيِّ إلى ميعادِهِم ﴿مُصبِحين﴾ يعني لـما أصبحوا.
﴿أنِ اغْدُوا﴾ أي باكروا بالخروج وقت الغداةِ ﴿على حَرثِكُم﴾ يعني الثـمارَ والزرعَ ﴿إنْ كُنتُمْ صارِمينَ﴾ أي قاطعين ثـمارَكُم.
﴿فانْطَلَقوا﴾ أي مَضَوْا وذهبوا إلى حرثِهم ﴿وهُمْ يَتَخافتونَ﴾ أي يتسارُّونَ، والـمعنى أنهم يُخفونَ كلامَهُم ويُسِرونَهُ لَئَلا يعلَمَ بهم أحد.
﴿أن لا يَدخُلَنَّها﴾ أي يتخافتونَ ويقولون لا يدخلنها أي الجنةَ ﴿اليومَ عليكُم مسكينٌ﴾ والنهيُ عن الدخول نهيٌ عن التمكينِ منه أي لا تُـمكنوهم من الدخول فيدخلوا.
﴿وغَدَوْا﴾ أي ساروا إلى جنتهم غَدوةً ﴿على حرْدٍ﴾ أي على قدرَةٍ أو على قصدٍ، وفسر الحرد بالقصد أي غَدَوْا على أمرٍ قد قصدوهُ واعتَمدوهُ واستسرّوه بينَهم وهم يظنونَ في أنفسهم القدرَةَ على صرمِها وأنهم تـمكنوا من مرادِهم، وفُسّر الحردُ بالـمنعِ أي منعِ الفقراءِ وفي ظنِهِمُ القدرَةُ على ذلكَ، وقيلَ غيرُ ذلك ﴿قادرينَ﴾ أي عندَ أنفسهم على جنتِهم وثـمارِها لا يحولُ بينهم وبينها أحد، ويحتملُ أن يكون منَ التقدير بـمعنى التضييقِ لقوله تعالى ﴿فقَدَرَ عليهِ رزقهُ﴾ سورة الفجر، أي مضيقين على الـمساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم يُنيلُهُم منها، قاله أبو حبان.
﴿فلـما رأوها﴾ أي فلما صارَ هؤلاء القومُ إلى بستانهم ورأَوْها محترقًا حرثُها أنكروها وشَكُّوا فيها هل هي جنتهم أم لا، فقال بعضُهم لبعض ظنًا منهم أنهم قد ضَلوا الطريقَ وتاهوا وأن التي رأوا غيرُها ﴿قالوا إنَّا﴾ أيها القومُ ﴿لضالُّونَ﴾ أي لـمُخطئونَ الطريقَ إلى جنتنا وليست هذه جنتَنا، ثـم وضحَ لهم أنها هي وأنه أصابها من عذابِ اللهِ ما أذهب خيرَها، وقيل: أي إنا لضالونَ عن الصواب في غُدُوِّنا على نية منعِ الـمساكينِ فلذلك عُوقِبنا.
﴿بل نحنُ﴾ أيها القوم ﴿مَحْرومون﴾ أي حُرمنا خيرَها ونفعَها بـمنعنا الفقراءَ منها.
﴿قالَ أوسَطُهم﴾ أي قال أفضلهم قولاً وأرجحهم عقلاً ﴿ألـم أقُل لكُمْ لولا﴾ أي هلا ﴿تُسَبِّحونَ﴾ أي تقولونَ سبحانَ اللهِ وتشكرونَهُ على ما أعطاكم، فقد أنّبهم أخوهم ووبخهم على تركهم ما حضَّهم عليه من تسبيحِ اللهِ أي ذكرِهِ وتنزيهِهِ عن السوءِ، ولو ذكروا الله وإحسانَهُ إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساةِ الـمساكينِ واقتَفَوْا سنة أبيهم في ذلك، فلـما غَفَلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع الـمساكينِ ابتلاهم الله وهذا يدلُ على أن أوسطهم كان قد تقدَّمَ إليهم وحرضَهم على ذكر اللهِ تعالى، وقيل (لولا تسبحون) أي تَستَثنونَ إذ قلتم ﴿ليَصرمُنَّها مُصبِحينَ﴾ فتقولوا إن شاءَ الله، وقيلَ لولا تسبحون أي تذكرونَ اللهَ وتتوبونَ إليهِ من خُبثِ نِيَّتِكُم، ولـما أنّبهم رجعوا إلى ذكرِ اللهِ تعالى واعترفوا على أنفسِهِم بالظلم وبادروا إلى تسبيح الله عز وجل.
﴿قالوا سُبحانَ ربِّنا﴾ أي نزهوا الله عن أن يكون ظالـما فيـما فعل، قال ابن عباس أي نَستغفِرُ اللهَ من ذنبنا ﴿إنَّا كُنَّا ظالـمينَ﴾ أي لأنفسنا في منعنا الـمساكين من ثـمرِ جنتنا.
﴿فأقبلَ بعضُهم على بعضٍ يتلاوَمونَ﴾ أي يلومُ بعضُهم بعضًا، يقول هذا لهذا أنت أشَرتَ علينا بهذا الرأيِ، ويقولُ ذلك لهذا أنتَ خوفتَنا مِنَ الفقرِ، ويقول الثالث لغيرِهِ أنت رَغبتنا في جمعِ الـمال، ثـم نادَوْا على أنفسهم بالويل.
﴿قالوا ياويْلَنا﴾ أي هلاكنا ﴿إنَّا كُنَّا طاغينَ﴾ أي مخالفينَ أمرَ اللهِ في تركنا الاستثناءَ ومنعِنا حق الفقراءِ، ثـم رَجَوْا انتظارَ الفرجِ في أن يبدلهم خيرًا من تلك الجنةِ فقالوا، ﴿عسى ربُّنا أن يُبْدِلَنَا خيرًا مِنها﴾ أي من هذهِ الجنة ﴿إنَّا إلى ربِّنا راغِبونَ﴾ أي طالبونَ مِنَ اللهِ تعالى في أن يبدِلَنا من جنتِنا إذ هلكت خيرًا منها، وقرأ الـمدنيان وأبو عمرو (يُبَدّلنا) بفتح الباء وتشديد الدال.
﴿كذلكَ العذابُ﴾ أي عذابُ الدنيا الذي بلونا به أصحابَ البستانِ مِن إهلاكِ ما كان عندَهُم إذ أصبحت جنتُهم أي بستانهم كالصريـم.
﴿ولَعَذابُ الآخرةِ أكبرُ﴾ يعني عقوبَةَ الآخرَةِ لـمن عصى ربه وكفرَ به أكبرُ يومَ القيامة من عقوبَةِ الدنيا وعذابِها ﴿لوْ كانوا يعلمونَ﴾ أي لو كانَ هؤلاءِ الـمشركونَ يعلمونَ أن عقوبَةَ اللهِ لأهلِ الشركِ بهِ أكبرُ من عقوبتِهِ لهم في الدنيا لارتدَعوا وتابوا وأنابوا ثـم أخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بـما أعدَّ للـمتقين فقال ﴿إنَّ للـمتَّقينَ﴾ الـمؤمنينَ باللهِ ورسولِهِ والـمـجتنبينَ للشركِ وسائرِ أنواعِ الكفر، والتقيُّ هو الذي أدّى ما فرضَهُ اللهُ واجتنَبَ ما حرّمه، فهؤلاء الـمتقونَ لهم ﴿عندَ ربِّهم﴾ في الآخرَةِ ﴿جَنَّاتِ النَّعيم﴾ أي النعيمِ الدائِمِ الذي لا يشوبُه ما ينغصُهُ، قال اللهُ تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)﴾ سورة الكهف، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلـم (إنَّ أَهْلَ الْجَنةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ ولا يتفلونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوطُونَ وَلَا يـَمْتَخِطُونَ) قالوا فما بال الطعام؟ (جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلهمون التسبيح والتحميد كما يُلهمون النَّفس) وقال أيضًا (يُنَادِي مُنَادٍ إِن لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِن لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا وَإِن لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِن لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا، فذلك قولُهُ عز وجل ﴿ونُودوا أن تِلكُمُ الجنَّةُ أورِثتُمُوها بـما كُنتم تعملون﴾ سورة الأعراف، رواهما مسلـم.
ولـما قال الـمشركونَ إنا لنُعْطى في الآخرةِ أفضلُ مـما تُعطَوْنَ قال تعالى مكذبًا لهم ﴿أفَنَجعلُ الـمسلـمينَ كالـمـجرمين﴾ أي لا يتَساوى عندَ اللهِ الذينَ ءامَنوا بربِهم وذَلُّوا له بالعبوديَّةِ والكافرينِ، وهو استفهامٌ فيهِ توقيفٌ على خَطَإِ ما قالوا وتوبيخٌ وتقريعٌ للكفار.
ثـم وبّخهم فقال ﴿ما لكُمْ﴾ أي أيُّ شيءٍ لكم فيـما تَزعُمونَ، وهو استفهامُ إنكارٍ عليهم ﴿كيفَ تَحكُمونَ﴾ وهو استفهامٌ ثالث على سبيلِ الإنكارِ عليهم، ومعنى الآيةِ: كيف تحكمونَ هذا الحكمَ الفاسِدَ، كأن أمرَ الجزاءِ مفوّضٌ إليكم حتى تَحكُموا فيه بـما شئتُم أنَّ لكم من الخيرِ ما للـمسلـمين، وهذا إشعارٌ بأن هذا الحكمَ صادرٌ من اختلالِ فكرٍ واعوجاجِ رأي.
﴿أمْ لكُمْ﴾ أي ألكم أيها القومُ بتسويتُكُم بين الـمسلـمين والـمـجرمينَ في الجزاءِ والـمنزلة ﴿كِتابٌ﴾ أُنزل من عندِ الله أتاكم به رسول من رسله ﴿فيهِ تَدْرِسون﴾ أي تقرءون في ذلك الكتاب ﴿إنَّ لكُمْ فيهِ لَـمَا تَخَيَّرون﴾ أي إن ما تختارونه وتشتهونَهُ لكم كما زعمتم، وشدد البزي تاء ﴿تـَخيرون﴾ وصلاً مع الـمد الـمشبع قبله.
﴿أمْ لكم﴾ أي ألكم ﴿أيـمانٌ علينا بالغةٌ﴾ أي أقسامٌ وعهودٌ ومواثيقَ عاهدناكم عليها فاستَوثَقتُم بها منا بالغَةً أي ﴿بالغةٌ إلى يومِ القيامةِ﴾ مؤكدَةٌ تنتهي بكم إلى يومِ القيامَةِ لا تنقطعُ تلك الأيـمانُ والعهودُ إلى يوم القيامَةِ ﴿إنَّ لكُم﴾ في ذلكَ العَهدِ ﴿لـما تَحكُمونَ﴾ أي حُكمُكم.
ثـم قال الله تعالى لنبيه محمد ﴿سَلْهُمْ﴾ أي سل يا محمدُ هؤلاءِ الـمشركينَ وقل لهم ﴿أيُّهُم بذلكَ زعيم﴾ الزعيم الكفيل، أي أيهم كفيلٌ وضامن بأن لهم في الآخرةِ ما للـمسلـمينَ من الخير ﴿أمْ لهُمْ شُركاءُ﴾ وفي تفسيره وجهان:
الأول: أن الـمعنى أم لهم أشياءُ يعتقدونَ أنها شركاءُ الله تعالى ويعتقدون أن أولئك الشركاءَ يجعلونهم في الآخرةِ مثلَ الـمؤمنينَ في الثواب والخلاصِ من العقاب، وإنـما أضافَ الشركاءَ إليهم لأنهم هم جعلوها شركاءَ لله تعالى.
الثاني: أن الـمعنى أم لهم ناسٌ يشاركونهم في قولهم هذا وهو التسوية بين الـمسلمِ والـمـجرمِ وأن لهم ما للـمسلـمين من الخيرِ في الآخرة.
﴿فَلْيَأتوا﴾ هذا أمرٌ معناه التعجيزُ أي لا أحد يقولُ بقولهم كما أنه لا كتابَ لهم ولا عهدَ من اللهِ ولا زعيـمَ لهم يضمَنُ لهم من الله بهذا ﴿بِشُركائِهم﴾ يَشهدونَ على ما زعَموا ﴿إن كانوا صادِقين﴾ في دعواهم. ثم إنهُ تعالى لـما أبطَلَ قولَـهم وبينَ أنه لا وجهَ لصحتِهِ أصلاً أخبر عن عظمَةِ يومِ القيامَةِ فقال ﴿يومَ﴾ هو يوم القيامَةِ ﴿يُكشفُ عن ساقٍ﴾ هو عبارةٌ عن شدةِ الأمرِ يومَ القيامَةِ للحسابِ والجزاء، يقال: كشَفَتِ الحربُ عن ساقٍ إذا اشتَدَّ الأمرُ فيها، وثبتَ (8) هذا الـمعنى عن تُرجُمانِ القرءان عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضي الله عنهما فقالَ في تفسير هذه الآية (عن شدةٍ مِنَ الأمرِ)، وروى الحاكمُ من طريقِ عِكرمَةَ عن ابنِ عباسٍ قال: -هو يومُ كربٍ وشدةٍ-. وقال أهلُ الباطلِ مِنَ الـمشبهَةِ إنَّ للهِ ساقًا يكشِفُها يومَ القيامَةِ، تعالى اللهُ عما يقولونَ عُلُوًا كبيرًا.
قال الإمامُ أبو جعفر الطحاوي وهو من رءوسِ السلفِ الصالحِ في عقيدتِهِ التي هي عقيدَةُ أهل السنة والجماعَةِ (تعالى (أي اللهُ) عن الحدود والغاياتِ والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ). اهـ
﴿ويُدْعَوْنَ﴾ أي الكفار ﴿إلى السُّجودِ فلا يَستَطيعونَ﴾ كأن في ظهورِهم سفافيد الحديد، والدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتوبيخ وعندما يدعون إلى السجود سُلبوا القدرة عليه وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندمهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالـمو الأطراف والـمفاصل.
﴿خاشعةً أبصارهُم﴾ أي ذليلة وخاضعة ﴿ترهَقُهُم ذِلَّةٌ﴾ أي تغشاهم وذلك أن الـمؤمنين يرفعون رءوسهم ووجوههم أشد بياضًا من الثلج وتسود وجوه الكافرين ﴿وقدْ كانوا يُدعَونَ﴾ أي في الدنيا ﴿إلى السجودِ وهُمْ سالـمونَ﴾ أي مُعافون أصحاء.
﴿فَذَرني ومَن يُكَذِّبُ بهذا الحديثِ﴾ أي القرءان، والـمعنى: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء الـمكذبين بالقرءان إليّ أكفِكَ أمره أي حسبك في الإيقاع بهم والانتقام منهم أن تكِل أمرهم إليّ فإني عالـم بـما يستحقون من العذاب، وهذا وعيد شديد لـمن يكذب بـما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره. قال ابن الجوزي (زَعَمَ بعضُ الـمفسرينَ أنها مَنسوخَة بآيَةِ السيف، وإذا قلنا إنه وعيد وتهديدٌ فلا نسخ). اهـ
﴿سَنَسْتَدْرجُهُم﴾ أي نأخذهم درجةً درجة وذلك إدناؤُهم مِنَ الشيءِ شَيئًا فشيئًا، والـمعنى أن اللهَ تعالى يدنيهم منَ العذابِ دَرَجَةً درجَة حتى يوقعَهم فيه ﴿مِنْ حيثُ لا يعلـمونَ﴾ واستدراجُ اللهِ تعالى العصاةَ أن يرزقهم الصحةَ ويفتحَ بابًا من النعمة يغتبطون به ويركنون إليه وهم يحسبونه تفضيلاً لهم على الـمؤمنين وهو في الحقيقة سببٌ لإهلاكهم فإن العبد إذا كان بحيث كلما ازدادَ ذنبًا جدَّدَ اللهُ له نعمةً وأنساهُ التوبةَ والاستغفارَ كان ذلك منه استدراجًا بحيث لا يشعرُ العبدُ أنه استدراج.
﴿وأُملي لهُم﴾ أي أمهلهم وأطيل لهم الـمدةَ ﴿إنَّ كَيدِي متينٌ﴾ أي إن عذابي لقوي شديد.
﴿أمْ تسألُـهُم﴾ أي أتَسألُ يا محمدُ هؤلاءِ الـمشركينَ باللهِ على ما أتيتَهم به من النصيحَةِ ودَعْوَتـهم إليه من الحق ﴿أجرًا﴾ أي ثوابًا وجزاء ﴿فهم مِن مَّغرَمٍ﴾ أي من أن يغرَموا لك الأجر ﴿مُثْقَلون﴾ قد أثقلهم القيامُ بأدائه، ومعنى الآية أتطلب منهم أجرًا فيَثقُلَ عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيـمان فلا يؤمنون، وهو استفهام بـمعنى النفي أي لست تطلب أجرًا على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيـمتنعوا عن الدخول في الذي دعوتهم إليه من الدين.
﴿أم عندهمُ الغيبُ﴾ أي اللوح الـمحفوظ الذي فيه الغيب ﴿فهُم يَكتبون﴾ منه ما يقولون، وهو استفهامٌ على سبيلِ الإنكار.
﴿فاصْبر﴾ يا محمد ﴿لِحُكمِ ربِّكَ﴾ أي لقضاءِ ربكَ الذي هو ءات، وامض لـما أمرك به ربك ولا يثنيكَ عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبُهم إياكَ وأذاهُم لك، قال ابن الجوزي (قال بعضُهم معنى الصبرِ منسوخٌ بآيَةِ السيف). اهـ ثـم رده أي ابن الجوزي.
﴿ولا تكُن﴾ يا محمد ﴿كصاحبِ الحوتِ﴾ وهو سيدُنا يونسَ عليه السلام الذي حبسَهُ الحوت في بطنه، وكان من قصتِه أنه لـما ذهب إلى العراقِ امتثالاً لأمرِ اللهِ ليُبَلِّغَ رسالَةَ ربِّه ودعا هؤلاءِ الـمشركين إلى دينِ الإسلامِ وعبادَةِ اللهِ وحدَهُ وترَكَ عبادَةَ الأصنامِ، كذبوه وتـمردوا وأصروا على كفرِهِم ولـم يَستَجيبوا لدعوتِهِ، وبَقِيَ يونس عليه الصلاة والسلام صابرًا على الأذى يدعوهم إلى الإسلام ويذكرُهُم ويعظُهُم، ولكنه مع طولِ مَكثُه معهم لـم يَلقَ منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجَد فيهم ءاذانًا صمًا وقلوبًا غُلفًا ووقفوا معارضينَ لدعوته عليه السلام فأيِسَ سيدُنا يونس عليه الصلاة والسلام منهم بعدما طالَ ذلك عليهِ من أمرهِم وخرجَ من بينِ أظهرِهم وظن أن الله تعالى لن يؤاخذَهُ على هذا الخروج من بينهم ولن يضيقَ عليه بسبب تركِهِ لأهلِ هذه القرية وهجرِهِ لهم قبل أن يأمرَهُ الله تبارك وتعالى بالخروج، ولـما أصاب نبيَ اللهِ يونسَ ما أصابه من ابتلاعِ الحوت علـم عليه السلام أن ما أصابه حصل له ابتلاءً له بسبب استعجاله وخروجِه عن قومه الذين أرسل إليهم بدون إذنٍ مِنَ اللهِ تعالى، ثـم عاد إليهم فوجدَهُم مؤمنين بالله تائبينَ إليه فمكثَ معهم يعلـمُهُم ويرشدُهُم.
فائدة:
سيدُنا يونُسُ عليه السلام ذهب مغاضبًا لقومِهِ لأنهم كذبوهُ ولـم يؤمنوا بدعوتِهِ وأصَروا على كفرِهِم وشركِهم، فلا يجوزُ أن يُعتَقَدَ أنَّ نبيَّ اللهِ يونُسَ عليه السلام ذهَبَ مغاضبًا لربه فإن هذا كفرٌ وضلالٌ لا يجوزُ نسبتُهُ لأنبياءِ اللهِ الذين عصمَهُم الله وجعلهم هُداة مهتدين عارفين بربهم، فمن نسبَ إلى يونسَ عليه السلام أنه ذهبَ مغاضبًا لله فقد افترى على نبيِّ اللهِ ونسَبَ إليه الجهل بالله والكفرَ به وهذا مستحيلٌ على الأنبياءِ لأنهم معصومون من الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسَّةِ قبل النبوة وبعدها.
﴿إذْ نادى﴾ حين دعا ربه وهو في بطن الحوت فقال (لا إله إلا أنت سبحانك) ﴿وهُوَ مكظومٌ﴾ أي مـملوءٌ غَيظًا على قومِه إذْ لـم يُؤمِنوا لـما دعاهُم إلى الإيـمانِ وأحوجوهُ إلى استعجالِ مفارقتِه إياهم.
﴿لولا أنْ تَدَاركَهُ﴾ أي أدركه ﴿نِعمةٌ﴾ أي رحمة ﴿مِنْ ربِّهِ﴾ أي لولا أن الله أنعمَ عليه بإجابة دعائه وقبول عذرِه ﴿لنُبِذَ﴾ أي لطرحَ من بطنِ الحوتِ ﴿بالعراءِ﴾ أي بالأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جَبلٌ ولا شجرٌ يَستُرُ ﴿وهُوَ مذمومٌ﴾ أي مُليم، ولكنه رُحِمَ فنُبِذَ غير مذموم لأنه تِيْبَ عليه قبل أن يخرج من بطن الحوت.
﴿فاجْتَباهُ ربُّهُ﴾ أي اصطفاه الله واختاره ﴿فَجَعلهُ مِنَ الصالحينَ﴾ أي من الـمستكملين لصفات الصلاح، وقيل من النبيين.
﴿وَإِن يَكَادُ الذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ وفي معنى الآية للـمفسرين قولان أحدهما أن الكفارَ قَصَدوا أَن يُصيبوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلـم بالعينِ فعَصَمَهُ اللهُ تعالى وأنزلَ هذه الآية، وقيل إن الكفار من شدة إبغاضهم لك وعداوتهم يكادون بنظرهم إليك نظر البغضاء أن يُزلقُوكَ من شدته، يقال نظر فلان إليّ نظرًا كاد يأكلني وكاد يصرعني، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بـمشيئة الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم (العين حق) رواه البخاري (9)، أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود.
وأخرج البخاري (10) أيضًا من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلـم يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ ويقول (إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق أعوذ بكلـمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة) وقرأ الأكثرون ﴿ليُزلقونك﴾ بضم الياء من أزلقتهُ، وقرأ أهل الـمدينة بفتحها من زلقتُه أزلقُهُ، وهما لغتان مشهورتان عند العرب.
﴿لَمَّا سَـمِعُوا الذِّكْرَ﴾ أي لـما سـمعوا كتاب الله يُتلى وهو القرءان ﴿ويَقولونَ﴾ من شدة كراهيتهم وبغضهم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلـم ﴿إنَّهُ لـمـجنونٌ﴾ أي ينسبونه إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرءان يقولون ذلك تنفيرًا عنه وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلـم أتـمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً، قال تعالى ردًا عليهم ﴿وما هُوَ﴾ يعني القرءان ﴿إلا ذِكرٌ للعالـمينَ﴾ أي موعظة للإنس والجن يتعظون به ويستنبطون منه صلاح أحوالهم الـمتعلقة بالدين والدنيا، فمن كان يظهر مثل هذا الذي فيه الهدى والحق والعدل والسعادة الأخروية ويتلوه ويدعو الناس إلى العمل بـما فيه كيف يقال في حقه إنه مـجنون والحال أنه من أدل الأمور على كمال عقله وعلوّ شأنه، فمن نسب إليه صلى الله عليه وسلـم القصور فإنما هو من جهله وخيبته فإن ذا الفضل لا يعرفه إلا ذووه، ولقد قيل إذا لـم يكن للـمرء عينٌ صحيحةٌ فلا غَروَ أن يرتابَ والصبح مسفر.
الهوامش:
[1] أخرجه مسلـم.
[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري [8/662-663]
[3] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الغيبة.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدرب، باب ما يكره من النميـمة.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب ﴿عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيـم﴾.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب ﴿عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيـم﴾ من سورة ن.
[7] أخرجهما مسلـم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيـمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا، وباب في دوام نعيـم أهل الجنة.
[8] أنظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري [13/428].
[9] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب العين حق.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، الباب الثاني من أبواب يزفون، النسلان الـمشي.