إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
سُورَةُ الْمُلْكِ مَكِّيَّةٌ فِى قَوْلِ الْجَمِيعِ وَتُسَمَّى الْوَاقِيَةَ وَالْمُنْجِيَةَ وَهِىَ ثَلاثُونَ ءَايَةً
بسم الله الرحمن الرحيـم
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الـملكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ (1) الذِي خَلَقَ الـموْتَ وَالحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ (2) الذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثـم ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ولقَد زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بـمصَابِيحَ وَجَعَلنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الـمصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلـما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلـم يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيـم بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلـم مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلـمونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلـم يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يـمسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يـمشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يـمشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيـم (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلـم عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلـما رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيـم (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلـمونَ مَنْ هو في ضَلالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أرَأَيْتُمْ إِنْ أصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بـماءٍ مَّعِينٍ (30)﴾
روى أبو داودَ والترمذيُّ وغيرُهُما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلـم قال (سُورَةٌ مِنَ القُرآنِ ثَلاثونَ آيَةً شْفَعَت لِصَاحِبِهَا حتى يُغْفَرَ له ﴿تباركَ الذي بيدِهِ الـملك﴾) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة باب في عدد الآي، والترمذي في سننه في ثواب القرءان باب ما جاءَ في فضلِ سورة الـمُلك، والحاكم في الـمستدرك 1 – 565 وصححه.
وروى الترمذيُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال ضَرَبَ بَعضُ أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلـم خِباءَهُ على قبرٍ وهو لا يَحسِبُ أنه قبرٌ فإذا فيه إنسانٌ يَقرَأُ سُورَةَ ﴿تَبارَكَ الذي بِيَدِهِ الـملْكُ﴾ حتى خَتَمَها، فأَتَى النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فقال يا رسولَ اللهِ إنِّي ضَرَبْتُ خبائِي على قبرٍ وأنا لا أحْسِبُ أنه قبرٌ فإذا فيه إِنسانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ ﴿تَبارَكَ الذي بيدهِ الـملْكُ﴾ حتى خَتَمَها، فقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلـم (هي الـمانِعَةُ هي الـمنجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذابِ القَبرِ) قال أبو عِيسَى هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وكذلك حسنَهُ السيوطيُّ، أخرجَهُ الترمذيُّ في سننه كتاب فضائِلِ القُرءانِ باب ما جاءَ في فضلِ سورَةِ الـمُلك، وأورَدَهُ السُّيوطِيُّ في الجامِعِ الصغيرِ 2 – 56.
﴿تباركَ﴾ أي تباركَ اللهُ، أي دامَ فضلهُ وبِرُّهُ، وتعالى وتعاظَمَ عن صِفاتِ الـمخلوقينَ، ﴿الذي بيدهِ﴾ أي بتَصَرفِه، فاليدُ هنا كنايةٌ عن الإحاطَةِ والقَهرِ، قال ابنُ عباسٍ يعني السلطان، يُعِزُّ ويُذِلُّ، ﴿الـملكُ﴾ أي مُلكُ السمواتِ والأرضِ وما فيهما وما بينهما، جميعُ الخلائقِ مقهورونَ بقدرتِهِ، يفعلُ في مُلكِهِ ما يريدُ ويحكمُ في خلقِهِ بـما يشاء، يُعِزُّ من يشاءُ ويُذِلُّ من يشاءُ، وكلُّ شيءٍ إليه فقيرٌ وكل أمرٍ عليه يسير، ﴿وهو﴾ أي اللهُ ﴿على كُلِّ شيءٍ﴾ مُـمكن يَقبلُ الوجودَ والعدمَ ﴿قديرٌ﴾ فلا يَـمنَعُهُ من فعلهِ مانعٌ ولا يحولُ بينَهُ وبينَهُ عجزٌ، ولا دافعَ لـما قضى ولا مانِعَ لـما أعطى.
﴿الذي خلقَ الـموتَ والحياةَ﴾ أي اللهُ الذي خَلقَ الـموتَ والحياةَ فأماتَ من شاءَ وأحيا من شاءَ إلى أجل معلوم، وجعلَ الدنيا دارَ حياةٍ (هو ما يصح الإحساس بوجودهِ والموت خلافه) ودارَ فناءٍ وجعلَ الآخرَةَ دارَ جزاءٍ وبقاءٍ ﴿ليَبْلُوَكُم﴾ أي ليـمتَحنَكُم بأمرِه ونهيهِ فيُظهِرَ منكم ما عَلِمَ أنه يكونُ منكُم فيجازيَكُم على عَمَلِكُم، ﴿أيُّكُم﴾ أيها الناسُ ﴿أحسنُ عملاً﴾ أي أطوَعُ وإلى طلبِ رضاهُ أسرع، أو أيكم أخلصُهُ وأصوبُه، فالخالصُ أن يكونَ لوجهِ اللهِ، والصوابُ أن يكونَ على السُّنةِ، والـمرادُ أنه أعطاكُم الحياةَ التي تَقدِرونَ بها على العملِ وسلَّطَ عليكم الـموتَ الذي هو داعيكُم إلى اختيارِ العملِ الحسَنِ على القبيحِ من حيثُ إن وراءَه البعثَ والجزاءَ الذي لا بد منه، وقد قَدمَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ذكرَ الـموتِ على الحياةِ تنبيهًا لأهميةِ الـموتِ ولكي نعملَ لـما بعد هذه الحياة.
﴿وهوَ العزيزُ﴾ الغالبُ القوي الشديدُ انتقامُهُ مـِمن عصاهُ وخالفَ أمرَهُ، ﴿الغفورُ﴾ لـمن تابَ من ذنوبه.
﴿الذي خلقَ﴾ أي أوجدَ وأبرزَ منَ العدمِ إلى الوجودِ، ﴿سَبْعَ سـَمواتٍ طِباقًا﴾ أي سَبعَ سـَمواتٍ بعضُها فوقَ بعضٍ كما ثبتَ في حديثِ الإسراء الذي أخرَجَهُ البخاريُّ ومسلـم، ﴿ما ترى﴾ يا ابنَ ءادم ﴿في خَلْقِ الرَّحمنِ﴾ العزيزِ الحكيم، ﴿مِن تفاوتٍ﴾ قال البخاريُّ التفاوتُ الاختلافُ، والتفاوتُ والتَّفَوُّتُ واحدٌ، وحقيقَةُ التفاوتِ عدمُ التناسُبِ كأنَّ بعضَ الشيءِ يفوتُ بَعضًا ولا يلائِمُه، والـمعنى: ما ترى يا ابنَ ءادَمَ في شيءٍ مـِما خَلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ منَ اعوجاجٍ ولا تناقُضٍ ولا عَيبٍ ولا خَطإ، وليس الـمرادُ أن الـمخلوقاتِ لا يختَلِفُ بعضُها عن بعضٍ من حيثُ الشكلُ والصفَةُ، فالاختلافُ هنا الـمرادُ به ما يناقِضُ الحكمةَ بالنسبَةِ للخالقِ، واللهُ عزَّ وجلَّ حكيم لا يجوزُ عليه العبثُ والسَّفَهُ، أي لا يجوزُ عليه فعلُ ما لا حكمةَ فيهِ.
ثـم أمرَ سبحانَهُ وتعالى بأن ينظُروا في خَلقِهِ ليتَعبِروا به فيتَفَكَّروا في قدرتِه فقال: ﴿فارْجِعِ البَصرَ﴾ أي كررِ النظرَ إلى السماءِ وتأمَّلْها ﴿هل ترى﴾ فيها يا ابنَ ءادمَ ﴿مِن فطورٍ﴾ أي من شُقوقٍ وصدوعٍ أو عيبٍ أو خللٍ، والفطورُ الشقوق.
﴿ثـم ارجِعِ البصرَ كرَّتَيْنِ﴾ مرَّةً بعد مرَّة، وإنَّـما أمرَ بالنظرِ مرتينِ لأنَّ الإنسانَ إذا نظرَ في الشيءِ مرةً قد لا يرى عيبَهُ ما لـم ينظُر إليه مرةً أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظرَ في السماءِ مرتين لا يرى فيها عيبًا ولا خللاً، وجَوابُ الأَمرِ ﴿يَنْقلِبْ﴾ أي يرجِع ﴿إليكَ البصرُ خاسِئًا﴾ أي صاغرًا ذليلاً متباعِدًا عن أن يَرى عيبًا أو خَللاً، ﴿وهوَ حسيرٌ﴾ أي كَليلٌ منقَطِعٌ قد بَلَغَ الغايَةَ في الإعياءِ لـم يرَ خللاً ولا تفاوتًا.
﴿ولقدْ زيَّنَّا السماءَ الدُنيا﴾ وهي السماءُ القريبَةُ من الأرضِ والتي نشاهِدُها ويَراها الناسُ ﴿بـمَصابيحَ﴾ أي بنجومٍ لها نور، ﴿وجَعَلناهَا﴾ أي جعلنا منها ﴿رُجُومًا للشياطينِ﴾ أي يُرجَمُ الشياطينُ الـمسترقونَ للسمعِ بشُهبٍ تنفَصِلُ عن هذه النجومِ، ﴿وأعتَدنا لهُم﴾ أي هيأنا للشياطينِ في الآخرَة ﴿عَذابَ السَّعيرِ﴾ أي النارِ الـمُوقدَةِ بعدَ الإحراقِ بالشهبِ في الدنيا.
﴿وللذينَ كفروا بربِّهم﴾ وأعتَدنا للذينَ كفروا باللهِ من إنسٍ وجنٍّ ﴿عذابُ جهنَّمَ﴾ وهي نارٌ عظيمةٌ جدًا، وقد جاءَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلـم قال (أُوقِدَ على النارِ أَلفَ سَنَةٍ حتى احْمَرَّتْ ثـم أُوقِدَ عليها ألفَ سَنَةٍ حتى ابْيَضَّتْ ثـم أُوقِدَ عليها أَلْفَ سَنَةٍ حتى اسْوَدَّتْ فهي سَوْدَاءُ مُظْلـمةٌ) ﴿وبئسَ﴾ وهي كلمَةُ ذَمٍّ ﴿الـمصير﴾ أي الـمرجِع، أي بئسَ الـمآلُ والـمنقلَبُ الذي ينتَظِرُهُم وهو عذابُ جهنم، أجارَنا اللهُ منها.
﴿إذا أُلقُوا فيها﴾ يعني إذا أُلقِيَ الكفارُ في جهنم وطُرحوا فيها كما يُطرَحُ الحطبُ في النارِ العظيـمةِ ﴿سَـمِعوا لها﴾ يعني لجهنمَ ﴿شهيقًا﴾ والشهيقُ الصوتُ الذي يخرُجُ منَ الجوفِ بشدةٍ، والـمرادُ أنهم سـَمعوا صوتًا منكرًا كصوتِ الحمارِ، تُصوِّتُ مثلَ ذلك لشدةِ توقُّدِها وغليانِها، ﴿وهيَ تفورُ﴾ أي تغلي بِهم كغليِ الـمِرْجَلِ.
﴿تكادُ﴾ جهنمُ ﴿تَـميَّزُ﴾ يعني تَتَقَطَّعُ وتتفرقُ، ﴿مِنَ الغَيظِ﴾ على الكفارِ، فجُعلت كالـمغتاظَةِ عليهم استعارَةً لشدَةِ غليانِها بهم ﴿كُلما أُلقِيَ فيها فوجٌ﴾ أي فَريقٌ وجماعَةٌ من الكفارِ ﴿سألهُم خَزنتُها﴾ وهم مالكٌ وأعوانُه، وسؤالُهم على جهةِ التوبيخِ والتقريعِ وهو مِما يزيدُهُم عذابًا إلى عذابهم، ﴿ألـم يأتِكُم نذيرٌ﴾ أي رسولٌ في الدنيا ينذرُكُم هذا العذابَ الذي أنتم فيه.
﴿قالوا بلى قدْ جاءَنا نذيرٌ﴾ أنذَرَنا وخوَّفَنا، كما في قولِه تعالى ﴿وَسِيقَ الذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقال لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلـم يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلى ولكِنْ حَقَّتْ كَلمةُ العَذَابِ على الكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الـمتَكَبِّرِينَ (72)﴾ سورة الزمر، فاعترفَ الكفارُ بأن اللهَ عزَّ وجلَّ أرسلَ إليهم رسلاً ينذرونَهُم لقاءَ يومِهِم هذا واعترفوا أيضًا بأنهم كذبوهُم كما قال الله تعالى إخبارًا عنهم ﴿فكذَّبنا وقُلنا﴾ أي قالوا للرسولِ الـمرسَلِ إليهم ﴿ما نزَّلَ اللهُ﴾ عليك ﴿مِن شيءٍ﴾ مـِما تقولُ من وعدٍ ووعيدٍ وغيرِ ذلك، ﴿إنْ أنتُم إلا في ضلالٍ كبيرٍ﴾ وفيه وجهان، قال أبو حيان في تفسيرِه البحر الـمحيط ما نصه (الظاهرُ أن قوله: ﴿إنْ أنتُم إلا في ضلالٍ كبيرٍ﴾ من قولِ الكفارِ للرسلِ الذين جاءوا نُذرًا إليهم، أنكروا أوَّلاً أن الله نزَّلَ شيئًا واستَجهَلوا ثانيًا مَن أخبرَ بأنه تعالى أرسلَ إليهم الرسُلَ وأن قائلَ ذلك في حيرَةٍ عظيـمةٍ، ويجوزُ أن يكونَ من قولِ الخزَنَةِ للكفارِ إخبارًا لهم وتقريعًا بـما كانوا عليه في الدنيا، وأرادوا بالضلالِ الهلاكَ الذي هم فيه، أو سَـمَّوْا عقابَ الضلالِ ضلالاً لـما كان ناشِئًا عن الضلال). اهـ
﴿وقالوا﴾ أي وقال الكفارُ أيضًا وهم في النارِ لخزنةِ جهَنَّم ﴿لوْ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نَسمَعُ﴾ من النُّذُرِ أي الرسلِ ما جاءوا به من الحقِّ سَـماعَ طالبٍ للحقِّ ﴿أو نعقِلُ﴾ عقلَ متأملٍ ومُفَكِّرٍ بـما جاءَ به الرُّسُل ﴿ما كُنَّا في أصحابِ السَّعير﴾ يعني ما كنا مِن أهلِ النارِ ولـم نَستَوجِب الخلودَ فيها.
﴿فاعْتَرفوا بذَنبِهِم﴾ أي بكفرِهم في تَكذيبِهم الرُّسُلَ، وهذا الاعترافُ لا ينفعُهُم ولا يخلصُهُم من عذابِ الله ﴿فسُحقًا﴾ أي فبُعدًا، ﴿لأصحابِ السَّعيرِ﴾ وهم أهلُ النارِ من رحمَةِ اللهِ، وهو دُعاءٌ عليهِم.
واعلم أنه تعالى لـما ذكرَ وعيدَ الكفارِ أتبعَهُ بوعدِ الـمؤمنينَ فقال: ﴿إنَّ الذينَ يَخْشَوْنَ ربَّهُم﴾ أي يخافونَه ﴿بالغيبِ﴾ أي الذي أُخبِروا به مِن أمرِ الـمَعادِ وأحوالهِ، أو يخافونَه وهم في غيبَتِهم عن أعينِ الناس في خَلَواتِهم فآمنوا به وأطاعوه ُسرًا كما أطاعوهُ علانيةً، ﴿لهُم مغفرةٌ﴾ أي عفوٌ من اللهِ عن ذنوبِهم، ﴿وأجرٌ كبيرٌ﴾ وهو الجنَّة.
﴿وأسِرُّوا﴾ أي اَخْفُوا أيها الناس ﴿قولَكُم أو اجهَروا بهِ﴾ أي أعلنوهُ وأظهروهُ، واللفظُ لفظُ الأمرِ والـمرادُ به الخبر، يعني إن أخفيتُم كلامَكُم أو جهرتُم به فـ﴿إنَّهُ﴾ تعالى ﴿عليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾ يعني بـما في القلوبِ منَ الخيرِ والشر فكيف بـما نطقتُم به، والآيةُ فيها بيانُ استواءِ الأمرين أي الإسرارِ والجهرِ في علمِ الله تعالى.
قال ابن الجوزي قال ابن عباس (نزلت في الـمشركين كانوا ينالونَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلـم فيُخبرُه جبريلُ بـما قالوا، فيقولُ بعضهم (أسروا قولكُم حتى لا يسمعَ إلهُ محمد)). اهـ
﴿ألا يَعلمُ﴾ الخالقُ جلَّ ثناؤُهُ ﴿مَنْ خَلقَ﴾ وهو الذي أَحاطَ بخفياتِ الأمورِ وجَلِيَّاتِها وعَلمَ ما ظهرَ من خلقِهِ وما بطنَ، أو ألا يعلم الخالقُ سرَّكُم وجهرَكم وهو استفهامٌ معناه الإنكارُ، أي كيفَ لا يعلمُ مَن خلقَ الأشياءَ وأوجدَها مِنَ العدمِ الصرف ﴿وهو اللطيفُ﴾ الـمحسِنُ إلى عبادِه في خَفاءٍ وسِتْرٍ ومن حيثُ لا يحتَسبونَ، أو العالم بدقائِق الأمورِ، ﴿الخبيرُ﴾ أي الـمطّلعِ على حقيقَةِ الأشياءِ فلا تخفى على اللهِ خافِيَة.
﴿هوَ الذي جعلَ لكُمُ الأرضَ ذلولاً﴾ أي الله، هو الذي جعلَ لكم أيها الناسُ الأرضَ ﴿ذلولا﴾ سهلةً تستقرونَ عليها ويـمكِنُ الـمشيُ فيها والحفرُ للآبارِ وشقُّ العيونِ والأنهارِ فيها وبناءُ الأبنِيَةِ وزرعُ الحبوبِ وغرسُ الأشجارِ فيها ونحوُ ذلك، ولو كانت صخرة صُلبَةً لـما تيسرَ شيء منها ﴿فامْشوا في مَناكِبِها﴾ أي طُرُقاتِها، وقيل جِبالها، وقيل جوانِبِها، قال البخاري (مناكبُها جوانِبُها)، والـمعنى هو الذي سهلَ لكم السلوكَ في جِبالِـها وهو أبلغُ في التذليل ﴿وكُلوا من رِزقِهِ﴾ مـما أحلهُ اللهُ لكم ﴿وإليهِ النُّشورُ﴾ أي الـمرجعُ يومَ القيامَةِ، فتُبعثونَ من قبورِكُم للحسابِ والجزاءِ، ثـم خوَّفَ كفارَ مكةَ فقال ﴿ءأمِنْتُم﴾ أي أَتَأْمَنونَ، ﴿مَّن في السَّماءِ﴾ أي الـملَكَ الـموكَّلَ بالعَذابِ وهو جبريلُ ﴿أن يَخْسِفَ بكُمُ الأرضَ﴾ وهو ذهابُها سُفلاً كما خُسِفَت بقارون، وكما خسفَ جبريلُ بـمُدُنِ قومِ لوطٍ ﴿فإذا هيَ تَـمُورُ﴾ تتحرَّكُ بأهلِها، والـمعنى أن اللهَ تعالى يحركُ الأرضَ بقدرتِهِ عندَ الخسفِ بهم حتى يَقلبَهُم إلى أسفَل وتعلُوَ الأرضُ عليهم وتَـمورَ فوقَهم أي تذهَبَ وتَجيء.
فائدة مهمة:
ذكرَ أهلُ التفسيرِ عند بيانِ معنى هذه الآية أن اللهَ تعالى لا يوصَفُ بالـمكانِ ولا يتحيزُ في جهةٍ لأن ذلك من صفاتِ الأجسامِ واللهُ ليس جسمًا كبيرًا ولا جسمًا صغيرًا فلا يسكُنُ السماءَ ولا يسكُنُ العرشَ ولا يجلسُ عليهِ، فرَبُّنا تباركَ وتعالى موجودٌ بلا جهَةٍ ولا مكانٍ، وقد قال الحافِظُ العراقيُّ في أماليه في تفسيرِ حديثِ (ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمكُم مَن في السماء) واستُدِلَّ بهذه الروايَة (أهلُ السماءِ) على أن الـمُرادَ بقولِهِ (مَن في السماءِ) الـملائكة. اهـ
﴿أمْ أمِنتُم مَّن في السَّماءِ أن يُرسِلَ عليكُم حاصِبًا﴾ أي ريحًا ذاتَ حِجارةٍ منَ السماءِ كما أرسلهَا على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيل، ﴿فَسَتَعلـمونَ﴾ أيها الكفرة ﴿كيفَ نذير﴾ أي كيف عاقِبَةُ نذيري لكم إذ كذبتُم به وردَدتُـموهُ على رسولي، والـمعنى وإذا عايَنتُم العَذابَ فستَعلمونَ أن إنذارِيَ بالعذابِ حقٌّ حينَ لا ينفعُكُم العلم.
﴿ولقَدْ كَذَّبَ﴾ أي الـمشركونَ، ﴿الذينَ مِن قبلِهِم﴾ أي مِن قَبلِ كفارِ مكةَ وهم الأممُ الخاليَةُ كَقومِ نوحٍ وعادٍ وثـمودَ وقومِ لوطٍ وأصحابِ مَدْيَنَ وقومِ فرعون، فإنهم كذبوا ما جاءَت به الرسل، ﴿فكيفَ كانَ نكير﴾ أي إنكاري عليهم أليسَ وَجَدوا العذابَ حقًا؟ بلى.
ولـما حذرَهُم ما يـمكِنُ إحلالُهُ بهم من الخسفِ وإرسالِ الحاصِب نبَّهَهُم على الاعتبارِ بالطيرِ وما أحكَم مِن خَلقِها فقال عز وجل ﴿أوَلـم يرَوا﴾ أي الـمُشركونَ ﴿إلى الطيرِ﴾ جمعُ طائِر تطيرُ ﴿فوقَهُم﴾ في الهواءِ ﴿صافَّاتٍ﴾ أي باسِطاتٍ أجنِحَتِهِن في الجوِ عند طيرانِها ﴿ويَقْبِضنَ﴾ أي يضمُمنَ الأجنَحَةَ إلى جوانبِهِن، قال البخاري (يضرِبنَ بأجنِحَتِهُن)، وقال مـجاهد (صافاتٍ بَسْطُ أجنحتِهِن) ﴿ما يـمسِكُهُنَّ﴾ عن الوقوعِ مع ثِقَلها وضخامَةِ أجسامِها ﴿إلا الرحمنُ﴾ سبحانَه وتعالى، والـمعنى لـم يكن بَقاؤُها في جوِ الهواءِ إلا بقدرَةِ اللهِ وحفظِهِ ﴿إنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِكُلِّ شيءٍ بصيرٌ﴾ أي عالـم بالأشياءِ ولا تخفى عليه خافِيَة.
﴿أمَّنْ﴾ أي من ﴿هذا الذي هُوَ جُنْدٌ﴾ أي أعوانٌ ﴿لكُم﴾ أيها الكافرونَ ﴿يَنْصُرُكُم﴾ يـمنعُ ويدفَعُ عنكم العذابَ إذا نزَلَ بكم، والـمعنى لا ناصرَ لكم، ﴿مِن دونِ الرَّحمنِ﴾ أي سوى الرحمن، فقوله تعالى ﴿أمَّن هذا الذي﴾ هو استفهامٌ إنكاري، أي لا جُندَ لكم يدفعُ عنكم عذابَ الله.
﴿إنِ الكافرونَ﴾ أي ما الكافرونَ باللهِ ﴿إلا في غُرُورٍ﴾ من الشياطينِ تغرُّهُم بأن لا عذابَ ولا حِسابَ، أو الـمعنى: ما الكافِرونَ باللهِ إلا في غرورٍ من ظَنهِم أنّ ما يعبدونَه من دونِ اللهِ يقربُهم إلى اللهِ زُلفى وأنها تنفعُ أو تَضُر.
﴿أمَّنْ﴾ أي من ﴿هذا الذي يرزُقُكم﴾ أي يطعمُكُم ويسقيكُم ويأتي بأقواتِكم ويُنـِزلُ عليكم الـمَطَرَ ﴿إنْ أمسَكَ رزقهُ﴾ أي قطَعَ عنكم رزقه، والـمعنى لا أحدَ يرزقُكم إن حبَسَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزقِ كالـمطرِ والنباتِ وغيرهِما، ﴿بل لَجُّوا﴾ أي تَـمادَوْا وأصروا مع وُضوحِ الحقِّ ﴿في عُتُوٍّ﴾ أي تَكَبُّر وعنادٍ ﴿ونُفُورٍ﴾ أي تباعدٍ عن الحقِّ وإعراضٍ عنه.
ثـم ضربَ اللهُ مثلاً للـمؤمِن والكافرِ فقال ﴿أفَمَن يـمشي مُكِبًّا على وجهِهِ﴾ أي منكسًا رأسَه لا ينظرُ أمامَهُ ولا يـمينَه ولا شِـمالَهُ، فهو لا يأمَنُ منَ العثارِ والانكبابِ على وجهِه ولا يدري أين يذهب، وهذا هو الكافرُ أكَبَّ على الكفرِ والـمعاصي في الدنيا فحشرَهُ اللهُ على وجهِه يومَ القيامة، أهذا ﴿أهدى﴾ أي أشدُّ وأرشَدُ استِقامةً على الطريقِ وأهدى له ﴿أمَّن﴾ أي أم من ﴿يـَمشِي سَوِيًّا﴾ معتدلاً ناظرًا ما بين يديه وعن يـمينه وعن شِماله يبصِرُ الطريق ﴿على صِراطٍ﴾ أي طريق ﴿مُستقيمٍ﴾ أي مستوٍ لا اعوجاجَ فيه. وقد شبَّهَ اللهُ تعالى الـمؤمِنَ في تـَمسكِه بالدينِ الحق ومشيِه على مِنهاجِه بـمن يـمشي في الطريقِ الـمعتدل الذي ليس فيه ما يتعثَرُ به، وشبّه الكافرَ في ركوبه ومشيه على الدين الباطلِ بـمن يـمشي في الطريقِ الذي فيه حفَرٌ وارتفاعٌ وانخفاضٌ فيَتَعثَّرَ ويسقُطُ على وجهه كلـما تخلصَ من عثرة وقعَ في أخرى.
﴿قُلْ﴾ يا محمد للـمشركين ﴿هوَ الذي أنْشَأَكُم﴾ أي اللهُ الذي خلقَكم ﴿وجَعَلَ لكُم السَّمْعَ﴾ تسمعونَ به ﴿والأبصارَ﴾ تُبصِرونَ بها ﴿والأفئدةَ﴾ أي القُلوبَ تَعْقِلونَ بها، ﴿قليلاً ما تَشكرونَ﴾ أي قليلاً ما تَشكرونَ اللهَ على هذه النعمِ التي أنعَمَها عليكم، وشُكرُ نعمَةِ اللهِ هو أن يَصرِفَ تلكَ النعمَةَ إلى وجهِ رضاه، وأنتم لـما صرفتُم السمعَ والبصرَ والعقلَ لا إلى طلبِ مرضاةِ اللهِ فأنتم ما شَكرتـُم نعمَتَه البتة.
﴿قُلْ﴾ يا محمد، اللهُ ﴿هُوَ الذي ذَرَأكُم﴾ أي بثَّكم وفرَّقَكُم ﴿في الأرضِ وإليهِ تُحشَرون﴾ أي تبعثونَ يومَ القيامة فتُجمعونَ من قبورِكم للحسابِ والجزاءِ، والـمعنى أن القادرَ على خلقِكُم منَ العدمِ قادرٌ على إعادَتِكم وفي ذلك ردٌّ على مُنكرِي البَعثِ والحشر.
﴿ويقولونَ﴾ أي الـمشركونَ الـمُنكرونَ للبَعثِ ﴿متى هذا الوعدُ﴾ أي متى يومُ القيامَةِ ومتى هذا العذابُ الذي تعدُوننا به ﴿إنْ كُنتُم صادقينَ﴾ في وعدِكم إيانا مَا تَعدونَنا، وهذا استهزاٌء منهم، فأجابَهم اللهُ عن ذلك بقولِهِ ﴿قُلْ﴾ أي يا محمدُ ﴿إنَّـما العِلمُ﴾ بوقت قيامِ الساعَةِ ﴿عندَ اللهِ﴾ لا يعلمُ ذلك غيرُه ﴿وإنَّـما أناْ نذيرٌ﴾ لكم أنذرُكم عذابَ اللهِ على كُفرِكم به ﴿مُبينٌ﴾ أي أُبَينُ لكم الشرائع.
﴿فلـما رَأَوْهُ﴾ أي فلما رأى هؤلاءِ الـمشركونَ العذابَ الـمَوعودَ به في الآخرَةِ ﴿زُلفَةً﴾ أي قريبًا منهم ﴿سِيئَتْ وجوهُ الذينَ كفروا﴾ ظهر فيها السوءُ والكآبَةُ وغشيها السوادُ كمَن يُساقُ إلى القتلِ، ﴿وقيلَ﴾ أي تقولُ لهم الزبانيةُ ومن يوبِّخُهم ﴿هذا﴾ العذاب ﴿الذي كُنتم بهِ تَتْدَعونَ﴾ أي تفتَعِلونَ منَ الدعاءِ، أي تَمنَّونَ وتسألونَ تعجيلَهُ وتقولونَ ائتنا بـما تعدُنا، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدَّعون أنكم لا تُبعثون إذا مُتم.
﴿قُل﴾ أي قل يا مُحمدُ للـمشركينَ من قومِكَ الذينَ كانوا يتَمَنَّونَ موتَك ﴿أرَءَيتُم إنْ أهْلَكَنيَ اللهُ﴾ أي أماتَني كما تريدونَ، ﴿ومَن مَّعيَ﴾ من الـمؤمنينَ، ﴿أوْ رَحِمَنا﴾ فأبقانا وأخَّر في ءاجالِنا فلم يعذِّبْنا بعذابِه ﴿فمَن يُجيرُ الكافرينَ مِن عذابٍ أليـمٍ﴾ أي مَن يَحميكُم ويَـمنَعُ عنكم العذابَ الـموجِعَ الـمؤلـمَ الذي سببُه كفرُكم، والـمعنى لا، ليس ينجِي الكفارَ مِن عذابِ اللهِ مَوتُنا وحياتُنا فلا حاجَة بكم إلى أن تستَعجِلوا قيامَ الساعَةِ ونزولَ العذابِ فإن ذلك غيرُ نافِعِكم بل ذلك بلاءٌ عليكم عظيمٌ.
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ ﴿هُوَ الرَّحمنُ﴾ أي الذي نعبدُهُ ونوحدُهُ وأدعوكُم إلى عبادَتِهِ ﴿ءامَنَّا بهِ﴾ أي صدقنا به ولـم نُشرِك به شيئًا، ﴿وعليهِ توكَّلنا﴾ أي وعليه اعتَمَدنا في أمورِنا وأن الضَّارَّ والنافِعَ على الحقيقَةِ هو اللهُ.
﴿فَسَتَعْلـمونَ﴾ أيها الـمشركونَ باللهِ إذا نزلَ بكم العَذابُ وعاينتُموهُ، ﴿مَن هُوَ في ضلالٍ﴾ أي من هو بعيدٌ عن الحقِّ وعلى غير طريقٍ مستقيمٍ نَحن أم أنتم، ﴿مُبينٍ﴾ أي بيِّن.
﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاءِ الـمشركينَ ﴿أرَءَيْتُم﴾ أيها القومُ، أي أخبروني يا مَعشَرَ قريش ﴿إنْ أصبحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أي غائرًا ذاهبًا في الأرضِ إلى أسفلَ لا تنالُه الأيدي ولا الدِّلاءُ وهو جمعُ دَلوٍ ﴿فمَنْ﴾ أي الذي ﴿يأتيكُم بـماءٍ مَّعين﴾ أي بـماءٍ ظاهِرٍ تراهُ العيون، أو جارٍ يصلُ إليه من أرادَهُ، أي لا يأتيكم به إلا اللهُ فكيفَ تنكرونَ أن يبعثَكُم.
ويروى أن هذه الآيةَ تُليت عند ملحدٍ فقال: يأتي به الفُئوسُ والـمعاوِل، فذهب ماءُ عينِه في تلك الليلة وعَمِيَ، نعوذُ بالله من الجرأَةِ على اللهِ وعلى ءاياتهِ، ونسألُ اللهَ أن يحفظَ علينا إيـمانَنا ويحسنَ ختامَنا ويدخلنا الجنة مع الأبرارِ ءامين.