إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
سُورَةُ الْمَعَارِجِ مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِىَ أَرْبَعٌ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)﴾.
يقال لها أيضًا سورة سأل سائل، ويقال لها سورة الواقع.
﴿سألَ سائِلٌ بِعذابٍ واقعٍ﴾ أي سألَ سائلٌ من الكفارِ عن عذابِ اللهِ بـمن هو واقعٌ ومتى يكونُ؟ فقال اللهُ تعالى مـجيبًا لذلك السؤال ﴿للكافرينَ﴾ أي على الكافرينَ، وقيلَ معنى الآيةِ دعا داعٍ وطلبَ طالبٌ عذابًا واقعًا للكافرينَ.
وأخرج النسائيُّ وغيره [1] عن ابن عباس رضي الله عنه ﴿سأل سائلٌ﴾ قال هو النضرُ بنُ الحارث، قال اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ فأمطِر علينا حجارةً مِنَ السماءِ-، فنزلت الآيةُ، وقد قتلَ يوم بدر.
وقرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر (سأل) بغير همز.
﴿ليسَ لهُ دافعٌ﴾ أي أن العذابَ واقعٌ بهم لا محالةَ سواءٌ طلبوه أو لـم يطلُبوه إما في الدنيا بالقتلِ وإما في الآخرَةِ لأن العذابَ واقعٌ بهم في الآخرَةِ لا يدفعُهُ عنهم دافع.
وأخرج ابنُ الـمنذرِ عن الحسَنِ قال نزلت ﴿سألَ سائلٌ بعذابٍ واقع﴾ فقال الناسُ: على من يَقَعُ العذابُ؟ فأنزلَ الله: ﴿للكافرينَ ليسَ لهُ دافعٌ﴾.
﴿مِنَ اللهِ﴾ أي بعذابٍ مِنَ اللهِ، والـمعنى ليس لذلكَ العذابِ الصادرِ من اللهِ للكافرين دافعٌ يدفعُهُ عنهم ﴿ذي الـمعارِجِ﴾ أي مصاعِدِ الـملائِكَةِ وهي السموات تعرجُ فيها الـملائكةُ من سـماءٍ إلى سـماءٍ، وقيلَ ذي الفواضِلِ والنعمِ.
﴿تَعْرِجُ﴾ أي تصعَدُ ﴿الـملائِكةُ والرُّوحُ﴾ هو جبريلُ عليه السلام، وإنـما أُخِّرَ بالذكر وإن كان من جملة الـملائِكَةِ لشرفِهِ وفضلِ منزلتهِ ﴿إليهِ﴾ أي إلى الـمكانِ الـمشرَّفِ الذي هو مَحلُّهُم وهو في السماءِ لأن السماءَ مهبَطُ الرحمات والبركاتِ، وقيل: إلى عرشِه، وليس معناها كما ذهبَتِ الـمـجسمَةُ إلى أن اللهَ تعالى يسكُنُ العرشَ والعياذُ باللهِ بل اللهُ عز وجلَّ منزهٌ عن الـمكانِ والجهَةِ، ولا يَستَلزِم ورودُ لفظٍ إلى أن يكونَ الـمعنى مكانًا ينتهي وجودُ اللهِ إليه فإنَّ اللهَ تعالى أخبر عن إبراهيمَ عليه السلام أنه قال: ﴿إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيَهْدينِ﴾ أي إلى حيثُ أمَرني ربي وكان ذَهابُه من العراقِ إلى الشامِ ولـم يكن ربُّ العزَّةِ قطعًا في الشامِ لـما تقررَ بالدلائل القاطِعَةِ من تَنَزُّهِ اللهِ عن الجهاتِ والأماكِنَ وإنـما دلَّ لفظُ إلى ربي على شرفِ الـمكانِ الـمقصودِ، وكذلك في قوله ﴿إليه﴾ في الآية الـمتقدمة.
وقرأ الـكسائي: ¬﴿يَعْرُجُ﴾ بالياء.
﴿في يومٍ﴾ هو يوم القيامة ﴿كانَ مِقدارُهُ خمسنَ ألفَ سنةٍ﴾ أي من سنين الدنيا جعله الله على الكافرين مقدارَ خمسينَ ألفِ سنَةٍ من وقتِ البعثِ إلى أن يفصلَ بينَ الخلق، وهذا الطولُ في حقِّ الكفارِ دونَ الـمؤمنين، وقيل في معنى هذه الآيةِ إنَّ عروجَ الـملائكةِ من أسفلِ الأرضِ إلى العرشِ في وقت كان مقدارهُ على غيرِهم لو صَعِدَ خمسينَ ألفَ سنة.
روى أحمد [2] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ ﴿في يَوْمًا كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْه وَسَلمَ (وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنهُ لَيُخَففُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتى يَكُونَ أَخَف عَلَيهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا) وروى أيضًا [3] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يُنْصَبُ لِلكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ كَمَا لَمْ يَعْمَلْ فِي الدُّنْيَا وَإِن الْكَافِرَ لَيَرَى جَهَنمَ وَيَظُنُّ أَنهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً).
واعلم أن من طالَ انتظارُه في الدنيا للـموتِ لشدَّةِ مقاساتِهِ للصبر عن الشهواتِ فإنه يَقصُرُ انتظاره في ذلك اليوم خاصة، فاحرص أن تكونَ من أولئكَ الـمؤمنين، فما دام يبقى لك نفسٌ من عمركَ فالأمرُ إليك والاستعدادُ بيديك، فاعمل في أيامٍ قصار لأيام طوالٍ تربح ربحًا لا منتهى لسرورِه، واستحقِرْ عُمُرَكَ بل عُمْرَ الدنيا فإن صبرتَ عن الـمعاصي في الدنيا لتخلُصَ من عذابِ يومٍ مقدارُهُ خمسونَ ألفَ سنة يكن رِبحُكَ كثيرًا وتعبُك يسيرًا.
﴿فاصْبِرْ﴾ أي يا محمد ﴿صبرًا جميلاً﴾ أي صبرًا لا جزَعَ فيه ولا شكوى لغيرِ اللهِ، والـمعنى: اصبِر على أذى هؤلاءِ الـمشركينَ لك ولا يَثْنيكَ ما تَلقى منهم من الـمكروهِ عن تَبليغِ ما أمرَكَ ربُّك أن تُبَلغَهُم من الرسالةِ.
قال ابنُ الجوزي قال الـمفسرونَ صَبرًا لا جَزَعَ فيه، وزعَم قومٌ منهم ابنُ زيدٍ أن هذا كان قبلَ الأمرِ بالقتالِ ثـم نُسِخَ بآيَةِ السيف. اهـ
﴿إنَّهُم﴾ أي إن هؤلاءِ الـمشركينَ ﴿يَرَونَهُ﴾ أي يرونَ العذابَ أو يومَ القيامَةِ ﴿بعيدًا﴾ أي غيرَ كائِنٍ ولا واقِعٍ، وإنـما أخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنهم يرونه بعيدًا لأنهم كانوا لا يصدقونَ به وينكرونَ البعثَ بعد الـمَماتِ والثوابَ والعقابَ.
﴿ونراهُ﴾ هذه النونُ نونُ الـمتكلِّـمِ الـمعظِّمِ نفسَهُ وهو الله سبحانه وتعالى، والـمعنى ونعلَمُهُ ﴿قريبًا﴾ وقوعُهُ أي واقعًا لا محالة، وكلُّ ما هو ءاتٍ قريب.
﴿يومَ تكونُ السماءُ كالـمهلِ﴾ أي كَعَكَرِ الزيت، وقيل: ما أُذيبَ من الرصاصِ والنحاس والفضة.
﴿وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ﴾ أي كالصوفِ الـمصبوغِ ألوانًا لأن الجبال مختَلِفَةِ الألوانِ فإذا بُسَّتْ وطُيِّرت في الجو أشبَهَت العِهنِ الـمنفوشِ إذا طيرتهُ الريح، شَبَّهَها في ضُعفِها ولينِها بالصوف، وقيلَ شبهها به في خفتِها وسيرِها.
﴿ولا يَسْئَلُ حميم حميمًا﴾ أي لا يَسأَلُ قريبٌ قريبَهُ عن شأنِهِ لشُغلِهِ بشأنِ نفسِهِ لهولِ ذلكَ اليومِ وشدتِهِ كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الـمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾ سورة عبس.
وقرأ أبو جعفر ﴿ولا يُسألُ﴾ بضم الياء.
﴿يُبصِرونهُم﴾ أي يرونـهم، فيُبصِرُ الرجلُ أباه وأخاه وقرابَتَهُ وعشيرَتَهُ ولا يَسأَلُه ولا يكلمُهُ لاشتِغالهم بأنفسِهِم ﴿يَوَدُّ﴾ أي يتمنى ﴿الـمـجرمُ﴾ أي الكافرُ ﴿لو يَفتدي من عذابِ يومئذٍ﴾ أي من عذابِ يومِ القيامَة بأعزِّ من كان عليهِ في الدنيا من أقاربِه فَلا يَقدِرُ.
ثـم ذَكَرَهُم اللهُ فقال ﴿بِبَنيهِ﴾ أي أولادِه ﴿وصاحبتِهِ﴾ أي زوجَتِهِ ﴿وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ﴾ أي عشيرَتِهِ ﴿الَّتِي تُؤْويهِ (13)﴾ أي تضُمُّه ويأوي إليها.
﴿ومَنْ في الأرضِ جميعًا﴾ أي من الناسِ ﴿ثـم يُنجِيهِ﴾ أي يخلصُهُ ذلك الفِداءُ من عذابِ الله، أي ويودُ الكافِرُ لو فُدي بهم لافتدى.
بدأَ اللهُ عزَّ وجلَّ بذِكرِ البنينَ ثـم الصاحبَةِ أي الزوجَةِ ثـم الأخِ إعلامًا منه عبادَهُ أن الكافرَ من عظيـمِ ما ينزلُ به يومَئِذٍ من البلاء لو وجد إلى ذلك سبيلاً بأحَبِّ الناسِ إليه كان في الدنيا وأقرَبِهِم إليه نسبًا لفَعَل.
روى ابن حبان [4] عن عُقبَةَ بنِ عامر قال رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلـم يقولُ (تَدنو الشمسُ من الأرضِ فيَعرَقُ الناسُ فمِنَ الناسِ من يبلُغُ عرَقُهُ كعبَيهِ، ومنهم من يبلُغُ إلى نِصفِ الساقِ، ومنهم من يَبلُغُ إلى رُكبتَيهِ، ومنهُم من يَبلُغ إلى العَجُز، ومنهم من يبلُغُ إلى الخاصِرَةِ، ومنهم من يبلغُ عُنُقَه، ومنهم من يبلُغُ وسَطَ فيْه، وأشارَ بيَدِهِ فألجَمَ فاهُ) قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلـم يشيرُ هكذا، ومنهم يُغطيهِ عرَقُهُ، وضرب بيَدِهِ إشارَة.
وروى ابن حبان [5] أيضًا عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمَ قال (إنَّ الكافِرَ ليُلجمُهُ العرقُ يومَ القيامَةِ فيَقولُ أَرِحني ولو إلى النارِ) فإذا كان هذا هو حالَ الكافرِ الذي ينادي ليدخِلَهُ اللهُ النارَ من شِدَّةِ ما يجدُ مِنَ الألـمِ والكربِ من طولِ ذلكَ اليوم الذي يقفُ فيهِ للحِسابِ فكيفَ به إذا دخَلَ النار. وأما الـمؤمِنُ التقيُّ فيُظلُّهُ اللهُ في ظلِّ العَرشِ حيثُ لا ظلَّ إلى ظلُّه، نسأَلُ اللهُ السلامَةَ في الدنيا والآخرَةَ.
وقد وردَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ أنَّ المرءَ إذا سمعَ بأمرِ الآخرَةِ استُحِبَّ له أن يقولَ (حسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل على اللهِ توكلنا).
﴿كلا﴾ ردعٌ للـمـجرم ونفي لـما يَوَدُّه من الافتداء، وفي الآية دِلالةٌ على أن الافتداءَ لا ينجيهِ مِن عذابِ اللهِ، ثـم ابتدَأَ اللهُ عزَّ وجلَّ الخبرَ عما أعدَّهُ للكافرِ يومَ القيامَةِ فقال: ﴿إنَّها﴾ أي النارَ ﴿لظى﴾ أي جهنَّم، سُـميت لظى لأنها تتَلظى أي تَتَلَهبُ على الكافِر.
﴿نَزَّاعةً للشوى﴾ جمعُ شواة وهي جلدَةُ الرأسِ أي تَنزِعُ جلدَةَ الرأس، وقيل الشوى أطرافُ الإنسانِ كاليدينِ والرجلينِ، والـمعنى قلاعَةٌ للأعضاءِ الواقِعَةِ في أطرافِ الجسدِ ثـم تعودُ كما كانت وهكذا أبدًا.
وقرأ الجمهور ﴿نَزَّاعةٌ﴾ بالرفع على معنى هي نزاعة، وقرأ حفص ﴿نزاعةً﴾ بالنصب.
﴿تَدْعُوا﴾ يعني النارُ إلى نفسِها حقيقةً يخلقُ اللهُ فيها الكلامَ كما يخلقُهُ في الأعضاءِ ﴿مَنْ أدبَرَ﴾ في الدنيا عن طاعَةِ اللهِ ﴿وتَوَلَّى﴾ عن الإيـمانِ باللهِ ورسولِه، ودعاؤُها أن تقولَ إليّ يا مُشرِكُ إليّ يا كافِرُ، تدعو الكافرينَ ثـم تلتَقِطُهم كما يلتَقِطُ الطيرُ الحبَّ.
﴿وجَمَعَ﴾ أي جمع الـمالَ ﴿فأوعى﴾ أي جعَلَهُ في وعائِهِ، ومنع منه حقَّ اللهِ تعالى.
﴿إنَّ الإنسانَ﴾ أريدَ به الجنسُ ولذلك استثنى منه بقوله ﴿إلا الـمصلين﴾.
﴿خُلِقَ هَلوعًا﴾ الهلعُ في اللغة أشدُّ الحِرصِ وأسوأُ الجزَعِ وأفحشُهُ، وتفسير الآية ما بعدها وهو قوله تعالى ﴿إذا مسَّهُ﴾ أي أصابَهُ ﴿الشرُّ جزوعًا﴾ أي أظهَرَ شدةَ الجزَعِ فلـم يَصبر.
﴿وإذا مسَّهُ الخيرُ مَنُوعًا﴾ أي إذا كثُر مالُه ونالَ الغنى فهو منوعٌ لـما في يديهِ بخيلٌ به لا ينفِقُهُ في طاعَةِ اللهِ ولا يؤدي حقَّ اللهِ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شرُّ ما في رجلٍ شحٌّ هالعٌ وجبنٌ خالعٌ) رواه أبو داود [6] وغيره.
قال الحافِظ الفقيهُ محمدُ مُرتَضى الزبيدي الحنفيُّ رحمه الله تعالى في شرح الإحياء مـمزوجًا بالـمتن ما نصه [7] (شرُّ ما في الرجُلِ) أي من مساوئِ أخلاقِه (شُحٌّ هالِعٌ) أي جازع يعني شحُّ يَحمِلُ على الحرصِ على الـمالِ والجزَعِ على ذهابِه (وجُبنٌ خالِعٌ) أي شديدٌ كأنه يخلعُ فؤادَهُ من شدةِ خوفِه من الخلق، قال العراقي رواهُ أبو داودَ من حديثِ أبي هريرَةَ بسند جيد. انتهى قلت ورواهُ كذلك البخاري في التاريخِ والحكيـمُ في النوادِرِ وابنُ جريرٍ في التهذيبِ والبيهقيُّ في الشعَبِ، وقال ابن طاهر إسنادُهُ متصل. انتهى كلام الزبيدي.
﴿إلا الـمصَلِّينَ﴾ وهم أهلُ الإيـمانِ باللهِ، وهذا استثناءٌ ولذلك وصفَهُم بـما وصفهم به من الصبرِ على الـمكارِهِ والصفاتِ الجميلةِ، والـمعنى إلا الذينَ يُطيعونَ اللهَ بأداءِ ما افترضَ عليهم من الصلاة.
﴿الذينَ هُم على صلاتِهِم﴾ أي الصلاةِ الـمفروضَةِ التي فرضَها اللهُ على عبادِهِ ﴿دائِمونَ﴾ أي مُواظبونَ عليها في أوقاتها لا يتركونها.
﴿والذينَ في أموالهِم حقٌّ معلومٌ﴾ يعني الزكاةِ الـمفروضَةِ.
﴿للسائِلِ﴾ الـمحتاجِ الذي يَسأَلُ الناسَ لفاقتِهِ ﴿والـمحرومِ﴾ أي الـمتَعَفِّف الذي لا يسألُ الناسَ شيئًا ولا يُعلِم الناسَ بحاجَتِهِ، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿والذينَ يُصدِّقونَ﴾ أي يؤمنون ويعتقدونَ اعتقادًا جازمًا ﴿بيومِ الدينِ﴾ وهو يومُ القيامَةِ أي يصدقونَ بالبعثِ والحشرِ والجزاءِ والحسابِ.
﴿والذينَ هُم من عذابِ ربِّهم مُّشفِقونَ﴾ أي والذينَ هم في الدنيا من عَذابِ ربهم خائفونَ أن يُعَذِّبَهم اللهُ في الآخرة، فهم من خشيَةِ ذلك لا يُضَيِّعونَ له فرضًا ولا يتعدَّوْنَ له حدًّا.
﴿إنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ﴾ أي لا يَنبَغي لأحدٍ أن يأمَنَهُ بل يكونُ بينَ الخوفِ والرجاء يخاف عذابَ ربه ويرجو رَحمتَهُ.
﴿والذينَ هُم لِفُروجِهِم حافِظونَ﴾ أي يحفظونَها عن الـمحرماتِ كالزنى ونحوه.
روى البخاريُّ في صحيحِهِ [8] عن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ أنه قال (من يَضمن لي ما بينَ لَحيَيْهِ وما بين رِجلَيْهِ أضمَنُ له الجنة).
﴿إلا على أزواجهم﴾ أي إلا من نسائِهم اللاتي أحلَّ اللهُ لهم ﴿أو ما ملَكَتْ أيـمانُهُمْ﴾ يعني الإماءِ الـمملوكاتِ بالطريقِ الشرعيِّ ﴿فإنَّهُم غيرُ مَلومينَ﴾ يعني بعدمِ حِفظِ فرجِه مِنَ امرأتِهِ وأمتِهِ اللتَينِ أحلَّ اللهُ له الاستمتاعَ بهن بالجماعِ وغيره فإنه لا يلامُ على ذلك.
﴿فَمَنِ ابتغى وراءَ ذلكَ﴾ أي من التَمَسَ وطلبَ مَنكَحًا سوى زوجتِه أو مِلكِ يـمينِه وهي الأمةُ الـمملوكة ﴿فأولئكَ هُمُ العادونَ﴾ أي الظالـمونَ الـمـجاوزونَ الحدَّ مِنَ الحلالِ إلى الحرام.
﴿والذينَ هُمْ لأمانتِهم﴾ أي لأماناتِ اللهِ التي ائتَمَنَهُم عليها من قولٍ وفعلٍ واعتقادٍ فيَدخُلُ في ذلكَ جميعِ الواجباتِ من الأفعالِ والتُّروكِ فيَجبُ الوفاءُ بجميعِها، وأماناتِ عبادِهِ التي ائتُمِنوا عليها بالقيامِ عليها لحفظِها إلى أن تؤدَّى ﴿وعَهْدِهِمْ﴾ أي عُهودِ اللهِ التي أخذها عليهم لطاعتِهِ فيما أمرهم به ونهاهم، وعهودِ عبادِهِ لـما عاهدوا عليه غيرَهم ﴿راعونَ﴾ أي حافِظونَ، يحفظونَهُ فلا يضيعونَهُ ولكنهم يؤدونَها ويتعاهدونَها على ما ألزَمَهم اللهُ وأوجَبَ عليهم حفظَها.
وقرأ ابن كثير وحدَه ﴿لأمانَتِهِم﴾.
﴿والذينَ هُم بِشَهاداتِهِم قائِمونَ﴾ أي لا يكتمونَ ما استُشهِدوا عليه ولكنهم يقومونَ بأدائِها غير مغيَّرَةٍ ولا مُبدَّلةٍ، وهذه الشهادَةُ من جملةِ الأماناتِ إلا أنه خَصَّها بالذكرِ لفَضلِها لأن بها تحيا الحقوقُ وتَظهَرُ وفي تركها وتضيع. وقرأ ابنُ كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو عمرو، وابنُ عامر، وحمزةُ، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم ﴿بشهادَتِهِم﴾ وقرأ حفص عن عاصم ﴿بشهاداتِهِم﴾.
﴿والذينَ هُم على صلاتِهِم يُحافِظون﴾ أي يؤدونَ الصلواتِ الخمسَ الـمفروضَةَ في وقتِها مع الإتيانِ بشروطِها وأركانِها.
﴿أولئكَ﴾ يعني مَن هذا صِفَتُهُ ﴿في جنَّاتٍ مُكرمونَ﴾ أي يُكرِمُهُم اللهُ بكرامَتِهِ.
﴿فمالِ الذينَ كَفَروا﴾ أي فما بالُ الذينَ كَفَروا ﴿قِبَلَكَ﴾ أي نحوَكَ يا محمدُ ﴿مُهْطِعينَ﴾ أي مُسرعينَ في التكذيبِ لك، وقيل يُسرعونَ إلى السماعِ منكَ ليَعِيبوكَ ويستهزءوا بكَ، وقيل: مسرعينَ عليكَ مادِّينَ أعناقَهُم مُدْمِنِي النظرَ إليك وذلك من نظرِ العَدُو.
﴿عَنِ اليـمينِ وعنِ الشِّمالِ﴾ أي عن يـمينِ النبيِّ صلى الله عليه وسلـم وعن شِـمالِهِ ﴿عِزينَ﴾ متفرقينَ حَلقًا ومـجالسَ جماعَةً جماعة معرضينَ عنكَ وعن كتابِ الله.
﴿أيَطمعُ كلُّ امرئٍ منهُم أن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعيم﴾ أي أيَطمَعُ كلُّ رجلٍ من هؤلاء الذين كَفروا أن يدخُلَ الجنةَ كما يَدْخُلُها الـمُسلِمونَ ويتنعمَ فيها.
﴿كلا﴾ ردٌّ وردع لطماعيِّتِهم والـمعنى لا يدخلونَ الجنَّةَ ﴿إنَّا خلقناهُم مـمَّا يَعلمونَ﴾ أي أنهم يَعلَمونَ أنهم مخلوقونَ من نطفَةٍ ثـم من عَلَقَةٍ ثـم من مُضغَةٍ كما خُلِقَ سائِرُ جِنسِهِم، فليسَ لهم فضلٌ يستوجبونَ به الجنةَ وإنـما تُستوجَبُ بالإيـمانِ والعملِ الصالحِ ورحمة الله تعالى.
﴿فلا أقسمُ﴾ أي أقسِمُ ﴿بربِّ الـمشارِقِ﴾ أي مطالعِ الشَّمسِ ﴿والـمغاربِ﴾ أي مغاربِها والـمرادُ بالـمشارقِ والـمغاربِ شرقُ كلِّ يومٍ ومغربُه ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ أي إنا لقَادِرونَ على إهلاكِهم وعلى أن نَخلُقَ أَمْثَلَ منهم وأطوَعَ للهِ ﴿وما نحنُ بـمسبوقين﴾ أي بـمَغلوبينَ عاجِزينَ عن إهلاكِهم وإبدالِهم بـمن هو خيرٌ منهم، فلا يفوتُنا شيءٌ ولا يعجزُنا أمرٌ نريده.
﴿فَذَرهُم﴾ أي دعِ الـمكذبينَ واتركهُم وهذا اللفظُ أمرٌ مَعناهُ الوعيدُ ﴿يخوضوا﴾ في باطِلِهِم ﴿ويلعبوا﴾ أي يلهوا في دنياهُم، ﴿حتى يُلاقوا يومَهُمُ الذي يُوعَدونَ﴾ أي حتى يُلاقوا عذابَ يومِ القيامَةِ الذي يوعدونَه.
قال ابن الجوزي (زعَمَ بعضُ الـمفسرينَ أنها منسوخَةٌ بآيَةِ السيف، وإذا قلنا إنه وعيدٌ بلقاءِ القيامَةِ فلا وجهَ للنسخ). اهـ
﴿يومَ يَخرجونَ مِنَ الأجداثِ﴾ أي القبورِ ﴿سِراعًا﴾ أي مُسرعينَ حينَ يسمعونَ الصيحةَ الآخِرَةَ إلى إجابَةِ الداعي، والـمعنى يخرجونَ من القبورِ مسرعينَ إلى الـمحشرِ ﴿كأنَّهُم إلى نُصُبٍ﴾ أي الأصنامِ التي كانوا يعبدونَها ﴿يُوفِضُون﴾ أي يُسرِعونَ، ومعنى الآيةِ أنهم يخرجونَ من الأجداثِ وهي القبورُ مسرعينَ إلى الداعي مُستَبِقينَ إليه كما كانوا يستَبِقونَ إلى نُصُبِهِم ليَستَلِـموها، والأنصابُ هي التي كان أهلُ الجاهِليَّةِ يعبدونَها ويأتونها ويُعظمونها.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم ﴿نُصُبٍ﴾ بضم النون والصاد، وقرأ الباقون ﴿نَصْبٍ﴾ بفتح النون وإسكان الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى.
﴿خاشعةً أبصارُهُم﴾ أي ذليلةً خاضِعَةً لا يرفعونَها لِـما يتَوَقَّعونَهُ مِن عذابِ اللهِ ﴿تَرهقُهُم ذِلَّةٌ﴾ أي يغشاهم الهوانُ ﴿ذلكَ اليومُ﴾ وهو يومُ القيامة ﴿الذي كانوا يُوعَدونَ﴾ به في الدنيا أن لهم فيه العذاب.
الهوامش:
1. تفسير النسائي [2/463]، والحاكم في الـمستدرك [2/502].
2. أخرجه أحمد في مسنده [3/75].
3. أخرجه أحمد في مسنده [3/75].
4. أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان [9/214-215].
5. انظر الـمصدر السابق [9/216].
6. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الجرأة والجبن.
7. إتحاف السادة الـمتقين [8/194].
8. اخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان.