إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

تأويلات السلف الصّالح لبعض الآيات المتشابهات
 
اعلم أن السلف الصالح والخلف يثبتون الصفات من غير تكييف ولا تشبيه لكن المشبهة الوهابية يقولون ساق ليست كساقنا وملل ليس كمللنا ويد ليست كأيدينا ويقصدون الجارحة والعياذ بالله!!!
 
الفرق واضح، أهل السنة يثبتون الصفات بلا كيف فيثبتون أن لله يد ولكنها ليست جارحة، معظم السلف يفوضون المعنى لله تعالى فيثبتون أن لله يداً ولكنهم مجمعون أنها ليست كأيدينا وليست جارحة ويقولون الله أعلم بمعناها!
أما الخلف فقالوا إن لهذه الصفات معاني تليق بالله تعالى ولا بد من التأويل، أما الوهابية المجسمة يزعمون أنهم يثبتون الصفات فيقولون إن لله يد ويعتقدون أنها جارحة (أي عضو) والفرق كبير.
فلو قالوا لله يد ولها معنى يليق بالله وتوقفوا لا بأس لكن أن يعتقدوا أن اليد بمعنى الجارحة فهذا عين التشبيه!!
 
والوهابية حرموا التأويل مطلقاً وزعموا أن السلف لم يأولوا وهذا الكلام مردود عليهم، فإن كان معظم السلف مفوضة إلا أن الكثير منهم أول بعض الصفات.
 
نبدأ مع ترجمان القرءان ابن عباس الذي دعا رسول الله له فقال (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب) رواه البخاري، وهذه تأويلاته للآيات المتشابهة فسرها على ما يليق بالله تعالى:
 
1- أول ابن عباس قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) فقال (يكشف عن شدة) فأول الساق بالشدة. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13 – 428) والحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (29 – 38) حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية (قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد)، ومنه يتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا الصالح.
 
2- أول ابن عباس رضي الله عنه أيضا قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قال (بقوة) كما في تفسير الحافظ ابن جرير الطبري (7 – 27).
 
3- أول ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى (فَاليَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) بالترك، كما في تفسير الحافظ الطبري مجلد 5 جزء 8 ص 201، حيث قال ابن جرير (أي ففي هذا اليوم، وذلك يوم القيامة ننساهم، يقول نتركهم في العذاب).
 
4- أول ابن عباس رضي الله عنهما الكرسي بالعلم فقد جاء في تفسير الطبري (3 – 7) عند تفسيره لآية الكرسي ما نصّه (اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض، فقال بعضهم هو علم الله تعالى ذكره….وأما الذي يدُلُّ على ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير أنه قال هو علمه).
 
5- أول ابن عباس رضي الله عنهما لفظ المجيء فقد جاء في تفسير النسفي رحمه الله تعالى (4 – 378) عند قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ما نصّه (هذا تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصّه، وعن ابن عباس أمره وقضاؤه).
 
6- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الأعين في قوله تعالى (وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) قال رضي الله عنه (بمرأى منا) تفسير البغوي 2 – 322، وقال تعالى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) قال رضي الله عنه (نرى ما يعمل بك) تفسير الخازن 4 – 190.
 
7- أول ابن عباس رضي الله عنهما لفظ الأيد في قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) قال رضي الله عنه (بقوّة وقدرة) القرطبي17 – 52.
 
8- أول ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى (اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فقد جاء في تفسير الطبري (1 – 135) ما نصّه (عن ابن عباس قوله (اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض).
 
9- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الوجه في قوله تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) قال رضي الله عنه الوجه عبارة عنه. وقال القرطبي في تفسيره 17 – 165 أي ويبقى الله فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم، وقال أبو المعالي وأما الوجه المراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى.
 
10- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الجنب في قوله تعالى (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) قال رضي الله عنه (تركت من طاعة الله وأمرالله وثوابه) روح المعاني الآية 56 من الزمر.
 
11- روى الحافظ البيهقي في كتابه مناقب الامام أحمد وهو كتاب مخطوط ومنه نقل ابن كثير في البداية والنهاية (10 – 327) فقال روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ) أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي وهذا إسناد لا غبار عليه.
 
12- روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول (احتجوا علي يوم المناظرة، فقالوا تجئ يوم القيامة سورة البقرة . . . .) الحديث، قال فقلت لهم (إنما هو الثواب) فتأمل في هذا التأويل الصريح.
 
13- ونقل الحافظ ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ) أنه قال (المراد به قدرته وأمره) قال (وقد بيّنه في قوله تعالى (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) ومثل هذا في القرآن (وَجَاءَ رَبُّكَ) قال إنما هو قدرته) دفع شبه التشبيه ص – 141.
 
14- تأويل الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لحديث النزول فقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن نزول الرب عزّ وجلّ، فقال (ينزل أمره تعالى كل سَحَر، فأما هو عزّ وجلّ فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو) التمهيد 7 – 143، سير أعلام النبلاء 8 – 105، الرسالة الوافية لأبي عمرو الداني ص 136، شرح النووي على صحيح مسلم 6 – 37، الإنصاف لابن السيد البطليوسي ص 82.
 
15- تأويل الإمام الشافعي رضي الله عنه للفظ الوجه فقد حكى المزني عن الشافعي في قوله تعالى (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال (يعني والله أعلم فثم الوجه الذي وجّهكم الله إليه) الأسماء والصفات للبيهقي ص 309.
 
16- أوّل سفيان الثوري الاستواء على العرش (بقصد أمره) مرقاة المفاتيح 2 – 137.
 
17- تأويل سفيان الثوري وابن جرير الطبري للاستواء فقد قال الإمام الطبري (1 – 192) في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) بعد أن ذكر معاني الاستواء في اللغة، ما نصّه (علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته….علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال).
 
18- تأويل الضحاك وقتادة وسعيد بن جبير للفظ الساق فقد جاء في تفسير الطبري 29 – 38 – 39 عند قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال الضحاك (هو أمر شديد)، وقال قتادة (أمر فظيع وشدّة الأمر)، وقال سعيد (شدة الأمر)، وقال الإمام الطبري قبل هذا بأسطر (قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد).
 
19- تأويل مجاهد والضحاك وأبي عبيدة للفظ الوجه في قوله تعالى (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال مجاهد رحمه الله (قبلة الله) الطبري 1 – 402، الأسماء والصفات للبيهقي ص 309.
 
20- وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) أي (إلا هو)، دفع شبه التشبيه ص 113.
 
21- تأويل الإمام الطبري للفظ العين فقد قال رحمه الله في تفسير 16 – 132 قوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بمرأى مني ومحبة وإرادة.
 
22- تأويل الحسن البصري رضي الله عنه لقوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ) جاء أمره وقضاؤه، تفسير البغوي 4 – 454، ونقل الإمام القرطبي في تفسيره القرطبي 20 – 55 نحو هذا عن الحسن البصري، وقال هناك نقلاً عن بعض الأئمة ما نصّه (جعل مجيء الآيات مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات، ومنه قوله تعالى في الحديث (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني….واستسقيتك فلم تسقني….واستطعمتك فلم تطعمني)….والله جلّ ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنّى له التحول والانتقال ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، لأن في جريان الوقت على الشيء فوْتَ الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز).
 
23- تأويل الإمام البخاري رضي الله عنه للضحك فقد قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتاب الأسمـاء والصفـات ص 470 باب ما جاء في الضحك…..عن أبي هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة…) قال قال البخاري معنى الضحك الرحمة.
قال أبو سليمان (يعني الخطابي) قول أبي عبد الله قريب، وتأويله على معنى الرضى لفعلهما أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التمييز يدلُّ على الرضى، والبشر والاستهلال منهم دليل قبول الوسيلة، ومقدّمة إنجاح الطَّلِبة، والكرام يوصفون عند المسألة بالبشر وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله (يضحك الله إلى رجلين) أي يُجزل العطاء لهما لأنه موجَب الضحك ومقتضاه.
قال الحافظ ابن حجر فتح الباري 6 – 486 مؤكداً مؤيداً لما ذهب إليه أبو سليمان الخطابي والأعلام المنزهون العارفون بالله تعالى، قلت ويدلّ على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بـ (إلى)، تقول ضحك فلان إلى فلان، إذا توجّه إليه طلْق الوجه مظهراً للرضا به.
 
24- تأويل الإمام البخاري للفظ الوجه فقد قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) إلا ملكه، ويقال إلا ما أريد به وجـه الله، الصحيح كتاب التفسير سـورة القصص، فتح البـاري 8- 364.
 
وقد نقل إجماع الأمة على منهج التأويل الحافظ المجتهد أبو الحسن علي بن القطان الفاسي المغربي رحمه الله تعالى حيث قال في كتابه الإقناع في مسائل الإجماع 1 – 32 – 33 (وأجمعوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب منهم من يشاء، كما قال تعالى، وليس مجيئه بحركة ولا انتقال، وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته نعيمهم، وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على الكافريـن ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم لغضبه شيء). اهـ