إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي (المتوفى 536هـ) (والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال اختلف الناس في سجود الشكر فالمشهور عن مالك كراهته وإنكاره وحكى ابن القصار عنه الجواز وبه قال ابن حبيب وأما الشافعي فحكى عنه ابن القصار الجواز وذكر أصحابه أنه سنة وهو مذهب أبي بكر وعلي وكعب بن مالك وأما أبو حنيفة فذكر ابن القصار عنه أنه يراه سنة في قول وفي قول آخر يجيزه وحكى غير ابن القصار عنه أنه يكرهه في أحد قوليه فأما المنكرون له فيتعلقون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر عنه أنه سجد شكرًا عند تجدد نعمة وارتفاع نقمة ولو كان مشروعًا لفعله أو جائزًا لاتفق وقوعه منه مع تكرار نعم الله عليه وعلى أصحابه ولا نعمة أشرف من الإيمان بالله والهداية للإسلام ولم ينقل عن أحد ممن أسلم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه شكر نعمة الإيمان بالسجود وأما المجيزون له فيحتجون على الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم في سجدة (ص) سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرًا وبقول أبي بكر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء يُسرّ به خرّ ساجدًا، وروي أيضًا أنه سجد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة وحين جيء برأس أبي جهل وحين كتب إليه علي في إسلام أهل همدان، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لقيت جبريل فأخبرني أنه من صلى عليّ صلى الله عليه ومن سلم عليّ سلم الله عليه فسجدت شكرًا لله تعالى، وفي البخاري أن كعب بن مالك خرّ ساجدًا لما بشر بتوبة الله عليه، ومن أثبت سجود الشكر سنة رأى أن الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم مشروع وقد سجدها ها هنا فيما ذكرناه، فكان سجود الشكر مشروعًا ليحصل الاقتداء به صلى الله عليه وسلم) انتهى كلام المازري.
وقال ابن رشد في البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في المسائل المستخرجة، كتاب الصلاة الثاني مسألة الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا (مسألة قال وسئل (أي مالك) عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا، فقال لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس، قيل له إن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا الله، أفسمعت ذلك؟ قال ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا، فقيل له إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به، فقال نأتيك بشيء آخر أيضا لم نسمعه مني، قد فتح على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا، إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم
لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه.
قال محمد بن رشد: نهى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ عن سجود الشكر في هذه الرواية مثل ما له في المدونة من كراهة ذلك، والوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين فرضا ولا نفلا، إذ لم يأمر بذلك النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه، واستدلاله على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ وهذا أيضا من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) لأنا أنزلنا ترك نقل أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها، وكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها، وقد أباح السجود فيها الشافعي ومحمد بن الحسن، واحتج لهما من نصر قولهما بما قص الله تعالى علينا من سجود داود عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص 24) وهذا لا دليل فيه إذ ليست سجدة شكر، وإنما هي سجدة توبة، ولا يصح قياس سجدة الشكر على سجدة التوبة إلا بعد التسليم لإباحة سجدة التوبة، ونحن لا نسلم ذلك، بل نقول إن شرعنا مخالف لشرع داود في إباحة السجدة عند التوبة من الذنب بمثل الدليل الذي استدللنا به في المنع من سجود الشكر، وبالله التوفيق) انتهى كلام ابن رشد.
وعند الشافعية سجدة الشكر تستحب عند هجوم نعمة كحدوث ولد أو مال أو قدوم غائب أو نصر على عدو، وعند اندفاع نِقمة كنجاة من غرق أو حريق، ولا تستحب لاستمرار النعمة واندفاع النقمة، وهي كسجدة التلاوة المفعولة خارج الصلاة شروطًا وكيفية.
فائدة :
لا يجوز السجود بلا سبب بنية التقرب إلى الله تعالى، وكذلك لا يجوز السجود لشخص مسلم أو غيره ولو بنية التحية.