إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال عَلاءُ الدِينِ الخَازِنُ الْمُفَسِّرُ (ت 741 هـ) في تَفْسِيرِه ما نَصُّه (وَحَكَى الأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُوْرَك عَن بَعْضِ أَصْحَابِنا أَنَّهُ قالَ اسْتَوَى بِمَعْنَى عَلَا مِنَ العُلُوِّ، قَالَ وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالكَوْنِ فِي الْمَكَانِ مُتَمَكِّنًا فِيهِ وَلكِن يُرِيدُ مَعْنَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمّا يَحْوِيهِ طَبَقٌ أَو يُحِيْطُ بِهِ قُطْرٌ) (1) وأبو بَكْرُ بنُ فُورَك هو تِلْمِيذُ الإمامِ الجَليلِ أبي الْحَسَنِ الباهِلِيّ، والباهِلِيُّ تِلْمِيذُ الإمامِ الكَبِير أبِي الْحَسَن الأشعَرِيّ، وكانَ الإمامُ الباهِلِيُّ يَقُولُ كُنْتُ فِي جَنْبِ الأَشْعَرِيّ كَقَطْرَةٍ فِي جَنْبِ البحر.
وفي الجامع لمسائل المدونة للإمام الكبير أبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي المالكي وهو من أصحاب الوجوه (المتوفى 451 هـ) كتاب المحاربين والمرتدين، الباب الخامس، جامع القول في أهل الأهواء ومجانبتهم وترك جدالهم والقول في القدر والاستواء على العرش والأسماء والصفات (قال سحنون أخبرني بعض أصحاب مالك أنه كان عند مالك جالساً فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله مسألة، فسكت عنه، ثم قال مسألة، فسكت عنه، ثم أعاد عليه، فرفع فيه رأسه كالمجيب له، فقال له السائل (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف كان استواؤه؟ قال فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه فقال سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، ولا أراك إلا امرئ سوء، أخرجوه).
وفي الباب السابع، باب في التوحيد والأسماء والصفات وسائر الاعتقادات، فصل في الاستواء (قال القاضي رضي الله عنه وأنه سبحانه مستو على عرشه كما قال عز وجل (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة).
والاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه فيأتي بمعنى:
التمكن والاستقرار ومنه قوله تعالى (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (سورة هود) أي أن سفينة نوح عليه السلام استقرت على جبل الجودي، ويقال استوى الرجل على ظهر دابته أي استقر عليها، قاله اللغويون وغيرهم.
الاستقامة والاعتدال ومنه قوله تعالى (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (سورة الفتح) أي الزرع، والمراد بالاستواء في هذه الآية الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، فقد قال المفسر أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج 8 – 103) ما نصه (فاستوى أي تم نباته على سوقه جمع ساق كناية عن أصوله) وقال البيضاوي في تفسيره أنوار التنـزيل (م 2 – ج 5 – ص 86) ما نصه (فاستقام على قصبه جمع ساق) ومثله قال النسفي في تفسيره (ج 4 – 164) وقال القرطبي في تفسيره (ج 16 – 295) (فاستوى على سوقه على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له) وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس (ج 10 – 188) ممزوجا بالمتن (واستوى اعتدل) في ذاته، ومنه قوله تعالى (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (سورة الفتح) ويقال استوى الشئ اعتدل (لسان العرب ج 14 – 414).
التمام ومنه قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) أي تمت قوته الجسدية، ففي القاموس (ص 1673) (واستوى الرجل بلغ أشده) قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس (ج 10 – 189) (فعلى هذا قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) وفي مختار الصحاح ما نصه (ص 136) (واستوى الرجل انتهى شبابه) وكذا في لسان العرب (ج 14 – 414) وفيه أيضا ما نصه (ج 14 – 414) (قال الفراء الاستواء في كلام العرب على وجهين أحدهما أن يستوى الرجل وينتهي شبابه وقوته….) وقال اللغوي الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز (ج 2 – 106) ما نصه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) قوي واشتد.
الاستيلاء أي القهر يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا احتوى على مقاليد الملك واستولى عليها وحازها، وسيأتي مزيد تفصيل إن شاء الله تعالى في مقال آخر، وقال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ص 113 ما نصه (واستوى على سرير الملك كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه).
النضج وقال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ما نصه (ص 113) استوى الطعام أي نضج.
القصد أو الإقبال قال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ما نصه (ص 113) واستوى إلى العراق قصد وقال ابن منظور في لسان العرب (ج 14 – 414) (تقول قد بلغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا معناه قصد بالاستواء إليه) ثم قال (قال الفراء تقول كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ وإليَّ يشاتمني على معنى أقبل إليَّ وعليَّ).
التماثل والتساوي وفي المصباح المنير ما نصه (ص 113) (استوى القوم في المال إذا لم يفضل منهم أحد على غيره وتساووا فيه وهم فيه سواء) وفي لسان العرب ما نصه (ج 14 – 410) (استوى الشيئان وتساويا تماثلا).
الجلوس يقال استوى على السرير إذا جلس عليه.
العلو قال ابن منظور في لسان العرب ما نصه (ج 14 – 410) (قال الأخفش استوى أي علا، تقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) والاستواء بمعنى العلو قد يكون بالرتبة وقد يكون بالمكان وهذا مستحيل على الله. كما سيمر معنا في مقالات أخرى.
وقال اللغوي الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز (ج 2 – 106) عند تعداد معنى الاستواء ما نصه (بمعنى الركوب والاستعلاء (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ) (سورة الزخرف) أي ركبتم واستعليتم) وللاستواء غير ذلك من المعاني، فمن أراد التوسع فليطلبها في معاجم اللغة.
(1) مُختار الصَّحاح، الْقُطْرُ بِالضَّمِّ النَّاحِيَةُ وَالْجَانِبُ وَجَمْعُهُ أَقْطَارٌ.