إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
ما الفَرق بينَ أهل السنة والجماعة وبينَ الجَبْرية؟
الفرقُ بينَنا وبينَ قولِ أهلِ الجَبر أنّ أهلَ الحقّ يُثبِتُونَ للعَبدِ الفِعْلَ، أمّا أولئك فقَد نَفَوا قالُوا لا فِعْلَ للعَبدِ إنما العَبدُ كالماءِ يُقَال جرَى الماءُ والرّيح يقال هَبّت الرِّيحُ، أمّا أهلُ الحقّ يقولونَ العَبدُ لهُ فِعلٌ واقعٌ بخلقِ الله ولهُ فيهِ مُباشَرةٌ، حرَكةٌ قَصْديَّةٌ إراديّةٌ نحوَ فِعْلِه الذي هو مخلوقٌ لله تعالى، ففَرْقٌ ظَاهرٌ بينَ هذا وهَذا، هؤلاء الجَبريّةُ قالوا لا فِعْلَ للعَبدِ وأمّا نحنُ فنَقولُ العَبدُ لهُ فِعلٌ لكنْ تحتَ مشيئةِ الله وقُدرتِه وإرادتِه، هو الله يخلقُه فينَا، أثبَتْنا نحنُ للعَبدِ قَصدًا وهُم لا يُثبِتُونَ القَصدَ، هنا الفَرقُ، وهذا ظَاهرٌ.
كما أنّ هناكَ فَرقًا بَينَنا وبينَ المعتزلة الذينَ هُم مع الجبريّةِ على طرَفي نقِيض حيثُ قالوا أي المعتزلةُ إنّ العبدَ يخلق أفعالَه، الله تعالى أعطاهُ القُدرةَ عليها ثم هو العبدُ يتَصرّف يخلُق أعمالَهُ، أعمالَه الحسَنة هو يخلُقها وأعمَالَه التي هي معاصي وسيّئات هو يخلقُها، كما أنّ هؤلاء بعيدُونَ مِنّا بُعداً ظاهِرًا كذلك أولئك الجبريّةُ بعِيدونَ مِنّا حيث إنهم نَفَوا الفِعلَ بالمرّة عن العبدِ والله تبارك وتعالى أثبَت الفِعلَ للعبد إنما نفَى الخَلقَ عنه، قال تعالى في إثباتِ الفِعل للعبد.
قال الله تعالى (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقال (وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).
أما أولئكَ نفَوُا الفِعلَ بالمرّة جعَلُوا الإنسانَ مع الماء الذي يجرِي سَواسِيَةً ومعَ الرِّيح التي تهُبّ سَواسيَةً، فأهلُ الحقِّ أَمْرُهم أَمرٌ بينَ أَمرَين لا جَبرٌ للعبدِ ولا تَفويضٌ إليهِ بل الله تَعالى هو المتفرّدُ بتَخليقِ كلّ شىء بتَخليقِ كلِّ حَركةٍ وسكُون في العباد وفي سائِر الحيوانات، ويكفِي في كونِ العبدِ مكَلَّفًا أنّه يُباشرُ الحركاتِ والسَّكنات بقَصدٍ وإرادةٍ لهذا كان مكلَّفًا ولَولا هذا لم يكن مُكلَّفًا وعلى هذا كانَ السَّلَف الصالح مِنَ الصّحابةِ ومَن دُونَهُم ومَن خالَف ذلك عندَهُم فهو مُفارِق لدِين الله تعالى، هذا معنى قولِ سيّدِنا عليّ أَمْرٌ بَينَ أَمْرَين.
قال رجلٌ يا أمير المؤمنين أخبرْنا عن القدَر، فقال بَحْرٌ عمِيقٌ فلا تَلُجْهُ، قالَ يا أميرَ المؤمنين أخبِرْنا عن القَدَر، قالَ سِرُّ الله فلا تتَكَلَّفُه، قال يا أميرَ المؤمنين أخبرنا عن القَدَر، قال أمّا إذْ أَبَيْتَ فإنّهُ أَمرٌ بينَ أَمْرَين لا جَبْرٌ ولا تَفويض. رواه ابن عسَاكر