إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
حديث (إذا شَهِدَت إحْدَاكُنَّ المَسجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا) صحيح رواه مسلم.
المجتهدونَ يَعرفُونَ هل هذا النّهي للتّحريم أم للتّكريه أم للأفضَلِيّة، ورَد النّهيُ في حديثٍ صَحِيح عن أَمرَين وليسَ المرادُ التّحريم وهو حديثٌ الترمذي وابن حِبان (لا تُصَاحِبْ إلا مؤمنًا ولا يَأكلْ طعَامَكَ إلا تقِيّ).
كذلك روَى ابنُ حِبان حديث (إذا صَلَّى أحَدُكم الفَريضَة فلا يُصَلّي في مَكانِه النّفلَ حتى يتَكلَّم أو يَنتَقِلَ) فهل يَحرُم إذا صَلَّى في مَكانِه النّفلَ مِن غَيرِ أن يتَكلَّمَ، مُجَرّدُ وجُودِ صِفةِ النّهيِ في حديثٍ ليسَ دَليلا على التّحريم بل قَد يكونُ للتّكريه وقد يَكونُ لبَيانِ أنّه خِلافُ الأولى هذا وَظِيفَةُ المجتَهد، أئمّةُ الفِقه والحديث قالوا مَكروه إلا إذا كانت المرأةُ المتطَيّبَة قصَدَت بخُروجِها التّعَرُّضَ للرّجَال، البيهقي وغيرُه قالوا مَكروهٌ خُروجُ المرأةِ إلى المسجد بالزّينَة الفَاخِرَة أو الطّيب فلَيسَ لأحَدٍ بعدَ هذا كلامٌ لمحاولةِ التّحريم المطلَق.
وكذلكَ روايةُ (إذا شهِدَت إحْدَاكُنَّ العِشاءَ فلا تمَسّ طِيبًا) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، كلُّ هذا مَحمُولٌ على التّكريْه ليسَ على التّحريم، نَحنُ مع الأئمّة في التّكريه إلا مِنَ الحالَةِ الخَاصّة وهيَ حَالةُ التّعَرّض للرّجال، وأمّا مَن قالَ غَيرَ ذلكَ فهوَ شَاذّ مِنَ الشّاذّين.
وأَمرُ الزّينَةِ قَاسُوه على الطِّيْب، الشّيخ زكَريّا الأنصاري في شَرح روض الطّالب يُصَرّحُ أنّ المرأةَ يُكرَه لها الذّهاب إلى المسجد بالزّينَة الفاخِرَة.
قوله عليه الصلاة والسّلم (لِيَجِدُوا ريحَها) رواه أحمد والبيهقي والحاكم، إن قالوا هذه اللام لامُ العَاقبَة يُقال لهم لامُ العاقبَة مِن بابِ المجَاز تُذكَر كما قال ابنُ السِّمعَاني في كتابِ القَواطِع في الأصُول والمجَاز لا يُرتَكب إلا بدليلٍ لأنّ الأصلَ في اللام التّعلِيل فلا تُخرَج عن ذلكَ إلا بدليل كما ورَد في الآية (فَالتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).
ولْيُشَنَّع على البُوطِيّ في قوله اللهُ حَقيقةُ الحقائق بأنّ هذا مِنَ الوَحدَة المطلَقَة التي هيَ فِكرةٌ لقدَماء اليُونَانِيّين ثم استَعملَها مَلاحِدَةُ المتَصوّفَة كما شَرَح ذلك مصطَفى صَبري، جئتُ لأقرأ أي لكَي أقرأَ تُعَلّلُ سبَب المجىء.
قالَ ابنُ هِشَام في شذُور الذّهَب وغَيرُه لامُ العاقبَة هيَ التي ما بَعدَها نَقِيضٌ لمقتَضى ما قَبلَها كقوله تعالى (فَالتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) لأنّ مُقتَضى التِقاط ءالِ فِرعَون لهُ أن يكونَ لهم نَصِيرًا ولكن العَاقبَة أنّه لو كانَ لهم عَدُوّا وحَزَنًا فجَاءَ مُقتَضى ما قَبلَ اللّام مُناقِضًا لما بَعدَها وهذا لا يتَأتّى في حديث (أيّما امرأةٍ خَرجَت متَعطّرةً فمَرّت بقَوم ليَجِدوا رِيحَها فهيَ زانيَة) لأنّ وجُودَ الرّيح هذه الحالَة ليسَ مُناقضًا لخرُوجِها متعَطّرة.
المرأةُ المتَزيّنة والمتعطّرة إن درّسَت النّساءَ والرّجالَ ونوَت بتَدريسِها الثّوابَ لها ثوابٌ بتَدريسِها أمّا بخُروجِها مِنَ البَيت متَزيّنةً ومتَعطّرة فليسَ لها أن تَنويَ الثّواب، ثم الزّينَةُ المكروهَةُ هيَ الزّينَةُ الفَاخِرَة، أمّا الزّينَةُ الخفِيفَةُ فلَيسَت مَكروهَةً، المبالَغةُ في الزّينَة هو المكرُوه، وهذا أيضًا إن كانت تَفعَلُه لأنّ النّساءَ اللّاتي تُعَلّمُهنّ لا يُقبِلْنَ علَيها إن لم تفعل ذلكَ فلا كراهةَ، في هذا الزّمَن إذا لم تَلبَس زِينَة مُعتَبرَةً أمامَ النّاس قد يُقَالُ عنها شَحّادة، والزّينَة الفَاخِرَة هي التي تَلفتُ الأنظار أما خُروج المرأةِ بالزّينَة الخفيفة ما فيهِ كَراهَة، الكُحلُ العَاديّ الذي جرَت عادَةُ النّاس في استعمالِه في القَديم والحديثِ ما فيه كرَاهَة أمّا خَاتم الفِضّة فأمرُه أخَفّ.