إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

اللهُ تعالى كاملٌ بكمالٍ أزليّ أبَديّ لا يزيدُ ولا يَنقُص أمّا غيرُ الله مَن كانَ كامِلاً فيَقبلُ الزّيادةَ في الكمَال، سيدنا محمّدٌ عليه الصلاة والسلام كامِلٌ، أكمَلُ الخَلق عندَ الله وهو يَقبَلُ الزّيادةَ في الكمال دائمًا يتَرقّى في الكمَالِ لأنّ الحسَناتِ التي نحنُ نَعمَلُها سبَبُها سيّدُنا محمد، هو علّمَنا دِينَ الله هو علّمَنا الطّاعات وهو علّمَنا أنّ المحرماتِ محرّمات تُبعِدُ مِنَ الله فهو يتَجَدّد له الثّوابُ لأنّهُ هو السّببُ في اهتدائِنا، فيتجَدّدُ لهُ الثوابُ لا ينقَطِعُ عنهُ الثوابُ بمَوتِه ومع ذلكَ زيادة له مِن باب مَزيدِ الفَضل عليهِ مِنَ الله تعالى بعدَ وفاتِه الله تعالى ردَّ علَيهِ رُوحَه فهو الآن يُصلّي في قَبره كذلكَ جميعُ الأنبياء الذينَ ماتُوا يُصَلّون في قبُورهم أحياهُم الله، بعدَ بُرهةٍ مِنَ الوقتِ أحياهم الله، فسيّدنا محمّد دائمًا يتَرقّى في الكمَالات، يزدادُ كمالا لم يكنْ لهُ، ومِنَ الكفر قولُ إنّ اللهَ يتَشّرف بعُروجِ النّبي في هذه الليلة أي ليلة الإسراء، فقائلُ هذا الكلام كَفَر بقوله اللهُ يتَشرّف بعُروج النّبي لأنّ مَعنى كلامِه أنّ الله يَزدادُ كمالا، اللهُ تَعالى لا يَزدادُ كَمالا، كمَالُه أزليّ أبديّ، هذا جعَلَ اللهَ مِثلَ الخَلقِ، الخَلقُ هُم الذينَ يَقبَلُونَ الزّيادةَ في الكَمالِ والنُّقصان، فهذا الذي قال اللهُ يتَشرف بعروج النبي صلّى الله عليه وسلّم جعَلَ الله مِثلَ خَلقِه جعَلَ الله حادثًا، وهكذا كلُّ مَن يَنسب إلى الله التّطورَ فهو كافر، الله تعالى لا يتَطوّر ولا يتَأثّر ولا يَنفَعِلُ ولا يَمسُّ ولا يُمَسّ، الله لا يتَطوّر الله لا يَتأثر الله لا يَنفَعِل الله لا يتَغير بل هو الذي يخلُق الانفعالَ والتّأثر والتّغيّرَ في خلقِه فتَنزيهُ الله تعالى مِن صِفاتِ الحَوادِث مِن أهَمّ أمُورِ الدّين.
 
الإمامُ الطحاوي في كتاب العقيدة الطحاوية قالَ (ومَن وصَف الله بمعنى مِن مَعاني البشر فقَد كفَر)، الإمام الطحاوي كانَ خَلْقُه في مُنتَصف القرن الثالث الهجري تقريباً ثم وفاتُه سنةَ ثلاثمائة وتسعةٍ وعشرين أي في أوّلِ القَرن الرابع، وكتابُ العقيدة الطحاوية هذا متداوَلٌ بينَ المسلمين منذُ ألفٍ ومائةِ سَنة، معرفةُ الله تعالى هو بالإيقانِ بلا تَردُّدٍ بوجودِه تعالى مع تنزيهِه عن كلِ ما هو من مَعاني البشر وصفاتِ سائر الخَلق، الله تبارك وتعالى منزّهٌ عن صفاتِ سائر الخلق البشرِ وغيرِهم، نحن نعرفُ مِن أنفُسِنا التّأثرَ والتّطورَ والانفِعالَ والصّعودَ بالحركةِ والنّزولَ بالحركة فكُلّ هَذا مستَحِيلٌ على الله لذلكَ الإمام أحمدُ بنُ حَنبل قال في قولِ الله تعالى (وجَاءَ ربّكَ والملَكُ صَفّا صَفّا) قالَ وجاءَ ربّكَ أي جاءَت قُدرتُه، المعنى أنّ الله تبارك وتعالى لا يجوزُ عليهِ الحركةُ والسّكون، المجيءُ الذي نعرفهُ مِنَ المخلوقينَ الذي هو مجيءٌ بالحركةِ والسّكون لا يجوزُ على الله، لذلكَ الإمام أحمد قالَ وجاءَ ربُّكَ أي جاءَت قُدرتُه وهكذا الآياتُ وكلُّ الأحاديث التي تُوهِم بأنّ الله متصّفٌ بشَىء مِن صفاتِ البشر ليسَ تَفسيرُها على ظاهرِه، ومعنى قولِه جاءَت قُدرتُه أي قُدرةُ الله أي الأمورُ العظِيمةُ التي خلقَها الله تعالى لذلكَ اليوم، يوم القيامة، الأمورُ العِظام التي خلقَها الله تعالى ليَوم القيامة هذه الأمور هيَ أَثرُ القُدرة، بقدرةِ الله تأتي، عن هذه الأمامُ أحمد فَسّر قولَ الله (وجَاءَ ربُّك) بمجيءِ هذِه الأمورِ العظيمة التي تكون بقُدرة الله ذلكَ اليوم، يوم القِيامة حين يَحضُر الملَكُ أي الملائكةُ صفُوفًا لِعُظْم ذلكَ اليوم حتى يُحِيطُوا بالإنس والجنّ، الجِنُّ والإنسُ يكونُونَ مُحاطِينَ، مُكتَنَفِين، بهذه الصّفوفِ منَ الملائكة، لا أحَدَ يستَطيعُ أن يخرجَ ويُفارِقَ هذا المكانَ لا مِنْ طَريق الجوّ ولا مِن طريقِ الأرض إلا بسُلطان أي إلا بإذنٍ منَ الله وحُجّةٍ، مَن أَذِنَ الله لهُ هذا يستَطيعُ أن يُفارقَ ذلكَ المكان، الملائكةُ أكثَرُ عبادِ الله تعالى، الجنُّ والإنسُ في الكثرةِ بالنّسبة للملائكةِ نِسبتُهم ضئيلةٌ، ملائكةُ الله ملَؤوا السّماواتِ السّبع، السّماءُ أعظَمُ مِن هذه الأرض التي تحمِلُنا، والكرسي أعظم من السموات السبع، الكُرسيّ الذي هذه السماواتُ السبعُ والأرض بالنّسبة إليهِ كحَلْقَةٍ مَرميّةٍ في الفَلاة، ماذا تكون هذهِ الحَلْقةُ بالنّسبة لسَعةِ الفَلاة؟ ثم هذا الكرسيّ بالنّسبة للعَرش كحلْقةٍ في فَلاةٍ مُلقَاةٍ، مَرميّة في الفَلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسى إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل الفلاة على الحلقة) رواه ابن حبان.
هؤلاء الملائكةُ حَافّونَ حَولَ العرش وهم يحمِلُونَ هذا العرش الذي تكونُ الكرسيّ بالنّسبةِ إليهِ كحَلْقةٍ مُلْقاةٍ في فلاة، هذا العَرشُ يحمِلُه أربعةٌ مِنَ الملائكة بقُدرةِ الله تعالى، الملائكةُ هُم أكثَرُ عبادِ الله، الجنّ والإنسُ بالنّسبة إليهم كالنّقطة في جَنبِ البَحر، هؤلاء الملائكةُ بالقَدْر الذي يشاءُ الله يَنزلُون ذلك اليوم بأمرِ الله، فيكونُون صفُوفًا وراءَ الإنس والجنّ لا أحَدَ مِنَ الجِنّ والإنس يستَطيعُ أن يختَرِقَ هذه الصّفوف لا بطَريقِ البَرّ ولا بطَريقِ الجوّ إلا مَن أذِنَ الله له، أولئكَ الذين أَذِنَ الله لهم عباد الله المخلَصُون، يكونونَ في ظِلّ العرش ذلكَ اليوم لا يُصِيبُهم شىءٌ مِن حرّ الشمس ولا تعَب يوم القيامة ولا أهوالها ولا شَىء مِن أثَرِ الجُوع ولا شىءٌ مِن أثَرِ العطَش، هم آمِنُونَ مَسرُورونَ مُرتاحُون ليسَ للحُزن والخوفِ في قلُوبهِم مَكان، فمعنى قولِ الإمام أحمد رضي الله عنه وجاءَت قُدرتُه في تفسير قولِ الله (وجاءَ ربُّك) المعنى أنّ المجيءَ الذي نسَبَهُ اللهُ إلى نَفسِه ليسَ المجيءَ بالحركةِ والانتِقال بل هوَ مجيءُ قُدرتِه، تلكَ الآثارُ العظيمةُ تَأتي ذلكَ اليوم.
 
الإمامُ الكبير المجتهد شيخ الإسلام أحمد بنُ حنبل مات سنة 245 تقريبًا، هذا الإمام أحمد رضي الله عنه قالَ في تفسير قوله تعالى (وجَاءَ ربّكَ) أي جاءَت قُدرَتُه، الأمورُ العِظامُ التي يُظهِرُها الله بقُدرتِه ذلكَ اليوم، ذلكَ اليوم أمورٌ عظيمَةٌ تظهَرُ، جَهنّم مَسافتها بعيدةٌ تحتَ الأرض السّابعة ذلكَ اليوم سَبعُونَ ألفًا مِنَ الملائكةِ يجُرّونها كلُّ ملَكٍ بيَدِه سِلسِلةٌ مَربُوطةٌ بجهنّم وكلُّ ملَكٍ في القُوّةِ يزيدُ على قُوّة هذا البشر، يجُرُّونَ جهَنّم ليَراها الناسُ في الموقف، وهُم في الموقف يَنظُرونَ إليها ثم تُرَدُّ إلى مكانها، هذا شىءٌ واحِد مِن كثيرٍ مِن أهوالِ القيامة، معنى قولِ الله تعالى (وجاءَ ربّكَ) أي قُدرتُه أي هذه الآثار، آثارُ القُدرة العظيمةِ هذه الآثار العظيمةُ التي يخلُقها الله بقدرتِه في ذلك اليوم هذا معنى قولِ الله تعالى (وجَاءَ ربّكَ)، وهكذا أيّ آيةٍ في القرآن أو أيّ حديثٍ ظاهرُه يُوهِمُ أنّ الله يتَحرك أو أنّ اللهَ لهُ أعضاءٌ فلا يُفسَّر بظاهِره بل يفسَّرُ بمعنى يلِيقُ بالله تعالى أو يُقالُ بغَير تفسيرٍ بلا كيفٍ، معناه ليسَ على المعنى الذي يكونُ في المخلوق، (الرّحمنُ على العرش استَوى) هذه الآيةُ لا يجوزُ حَملُها على القعُودِ والجلُوس لأنّ القعودَ والجلوسَ مِن صفاتِ البشَر، فمَن اعتقَد ذلكَ فقَد جعَلَ الله مثلَ البشَر، الجلُوسُ كيفَما كانَ مِن صفاتِ البشَر إنْ كانَ تَربُّعًا وإن كانَ قُرفُصاء وإنْ كان توَركًا أو غيرَ ذلك.
والإمام المفسّر القرطبي المالكي يفسر قول الله سبحانه وتعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) يقول قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي أمره وقضاؤه ثم يقول (والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان وأنّى له التحول والانتقال ولا مكان له ولا أوان ولا يجري وقت ولا زمان) انتهى كلام الإمام القرطبي، هذا إجماع المسلمين، هذه عقيدة الأنبياء، الله تبارك و تعالى موجود بلا مكان والحمد له سبحانه وتعالى الذي أعاننا إلى هذا البرهان والبيان (المجلد العاشر من تفسير القرطبي للإمام أبي عبد الله محمد القرطبي الذي توفي سنة 671 هـ في الجزء العشرين، من طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424 هـ الصحيفة 37).