إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فائدة في أن من اعتقد أن الله تعالى جسم ليس مسلماً ولا مؤمناً لأنه غير عابد لله تعالى ذلك أنه عابد لشيء تخيله وتوهمه، وأن عبادته لذلك الشيء الذي توهمه لا تنفعه لأنه لا يعبد الله تعالى الذي ليس كمثله شيء
قال الإمام فخر الدين الرازي الشافعي رحمه الله في تفسيره الكبير عند قول الله تعالى من سورة يوسف (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)، ما نصه (وهذا قول المشبهة فإنهم تصوّروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه، وهذا المتخيل (بضم الميم وفتح التاء والخاء وتشديد الياء المفتوحة) غير موجود البتة، فصحّ أنهم لا يعبدون إلا مجرّد الأسماء). اهـ
فدلّ استدلال الإمام الرازي بالآية الكريمة أن من اعتقد أن الله تعالى جسم قاعد فوق العرش ليس له في الإسلام أيّ نصيب، لأنه ليس عابداً لمن وصف نفسه بأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وللرازي رحمه الله في كتابه عجائب القرآن نقلاً عن الإمام العالم العابد أبي بكر الشبلي المالكي رضي الله عنه (توفي 334 هـ) قال (ومن كـيّـفه (يريد الله تعالى) فهو وثني) والوثني عابد الأوثان لا شك كافر، يشـبّه الشبلي من اعتقد أن لله تعالى كيفية بعابد الأوثان من كفار الجاهلية والعياذ بالله تعالى، والشبلي دلف بن جعفر من الأمراء الذين زهدوا في الدنيا فسلك سبيل الآخرة على يد إمام أهل التصوف الجنيد بن محمد القواريري البغدادي رضي الله عنه (توفّي 297 هـ) وهو القائل كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني (توفّي 854 هـ) التوحيد إفراد القديم من المحدث، والقديم هو الله تعالى الذي لا ابتداء لوجوده وهو وحده المستحق للعبادة سبحانه، والمحدث (بفتح الدال) هو كل ما سوى الله والله تعالى خالقه لا شريك له ولا يحتاج تعالى إلى أيّ شيء من خلقه سبحانه، ومن نفى أحد الأمرين كان لا محالة على غير دين الإسلام.
ومن مشايخ الجنيد رضي الله عنه محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز المعروف بأبي حمزة الصوفي (توفّي 269 هـ) من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل (توفّي 241 هـ) رضي الله عنه، فقد قال ابن مفلح الحنبلي (توفّي 884 هـ) في ترجمته في كتابه المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد أن أحمد بن حنبل كان يسأله في مجلسه عن مسائل ويقول ما تقول فيها يا صوفي.
وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان يعظم علماء الصوفية ويقدّمهم في مجالسه يسألهم عن قولهم في مسائل في الفقه لا يستحيي من الحق رضي الله عنه صدق فيه حديث مسلم في صحيحه وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
والشبلي تلميذ الجنيد من أولياء السلف الصالح وزهادهم وعبادهم المشهورين رضي الله عنهم جميعاً، دلّ كلامه المتقدم وكلام شيخه الجنيد رضي الله عنهما على أن السلف كانوا يكفرون من اعتقد في الله تعالى الكيفية والجسمية، وهو ما يريد الرازي تأكيده وتقريره أنه الحق لا شك ولا ريب، وهذا ما ذكره الإمام أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي رضي الله عنه (توفّي 321 هـ) حاكياً اتفاق السلف الصالح وهو ما عليه أهل السنة والجماعة إجماع لا خلاف فيه (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر) ومعاني البشر صفاتهم وهي كثيرة منها الشكل واللون والتغير من حال إلى حال والحجم والحد كبيراً كان أو صغيراً والتحيز في جهة أو مكان أو الانتشار في الأماكن كالهواء تعالى الله عن ذلك كله، والله تعالى منزه عنها جميعها سبحانه مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك كما قال الإمام ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري رضي الله عنه (توفّي 245 هـ).
ومن كلام إمام أهل السنة والجماعة أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشــعـري (توفّي 324 هـ) رضي الله عنه قال في كتاب اللمع ما نصه (فإن قال قائل لم زعمتم أن الباري سبحانه لا يشبه المخلوقات، قيل لأنه لو أشبهها لكان حكمه في الحدَث حكمها، ولو أشبهها لم يخلُ من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الجهات كان محدثاً مثلها من جميع الجهات، وإن أشبهها من بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها، ويستحيل أن يكون المحدَث لم يزل قديماً وقد قال الله تعالى (ليس كمثله شيء) وقال تعالى (ولم يكن له كفواً أحد)).