إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

شرح نفيس في القضاء والقدر
 
مذهب أهل السنة والجماعة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، من كذّب بهما أو بأحدهما ضلّ عن الصراط المستقيم، ونستدلّ على وجوب الإيمان بالقدر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم، القدر معناه التقدير أي المشيئة وهي الإرادة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإن قال قائل أخبرني عن الدعاء هل يرد شيئاً من القضاء المحتوم؟ قلنا له لا، القضاء المحتوم لا يردّه شيء، فإن قال قائل اشرح لي، قلنا له القضاء نوعان قضاء معلق وقضاء محتوم، ويقال للقضاء المحتوم القضاء المبرم أيضاً.
القضاء المعلق هو القضاء الذي يكون معلقاً على الدعاء مثلاً أو على صلة الرحم أو على الصدقة، فيكون المكتوب في اللوح المحفوظ مثلاً فلان إن دعا ربه فإن رزقه يكون واسعاً، وإن لم يدع الله يكون رزقه ضيقاً. وهذا معناه أن سعة رزق هذا العبد معلقة على الدعاء، والله تعالى يعلم الذي سيحصل من الأمرين، هل يدعو فيكون رزقه واسعاً أم لا، ويكون ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ أيضاً، والحاصل من أحد الامرين هو القضاء المحتوم الذي لا يتغير، فالقضاء المحتوم هو الذي يحصل من الأمرين إما أن يدعو ذلك الشخص فيوسّع الله عليه رزقه، وإما أن لا يدعو فلا يوسع عليه رزقه، والحاصل من أحد الأمرين هو القضاء المحتوم الذي لا يتغير، لا بسبب دعاء يتغير ولا صدقة ولا غير ذلك من الأمور، ففي المثال السابق إن دعا ذلك الشخص، فإنه بدعائه هذا يكون قد رد القضاء المعلق وهو ضيق الرزق، والله تعالى يعلم أنه سيدعو ومكتوب في اللوح المحفوظ أنه سيدعو وسيوسّع عليه رزقه، والحاصل هو القضاء المحتوم.
فالذي ورد في الحديث عن ابن عباس من أن الدعاء يرد القدر معناه أن الدعاء يرد القدر المعلق، وليس المراد ان الدعاء يرد القدر المبرم المحتوم، القضاء المبرم أو المحتوم، ويقال القدر المبرم أو المحتوم، لا يردّ ذلك شيء، وقد روي (لا يرد القدر إلا الدعاء، فإنْ رد القدر فهو من القدر) معناه أن الدعاء يرد القدر المعلق، فيكون الحاصل من الأمرين هو من القدر المحتوم، أي أنه مقدر عليه ومكتوب في اللوح المحفوظ أن فلاناً سيدعو وسيحصل له كذا وكذا مثلاً، وكذلك مثلاً إن كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أن فلاناً إن وصل رحمه يكون عمره مائة عام، وإن قطع رحمه يكون عمره أربعين عاماً وكان مكتوباً في اللوح المحفوظ أن هذا الشخص قاطع لرحمه وأقربائه وأن عمره سيكون أربعين عاماً، في هذه الحال لو دعا كل أهل الأرض له أن يجعل الله عمره مائة عام فإن الدعاء لن يغيّر قضاء الله تعالى ولا بد ان يكون ما قدر الله له، القضاء المحتوم لا يتغير.
 
لو كان القضاء المحتوم يتغير بالدعاء لتغيّر بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام كان دعا الله تعالى أن لا يجعل بأس المسلمين بينهم، أي أن لا يحصل بينهم اقتتال وخصومات شديدة، الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم أن الله تعالى شاء خلاف ذلك، فطلب من الله تعالى هذا الطلب ودعا به، الله تعالى لم يعطه ما دعا به، ليس لأن دعاءه عليه الصلاة ليس مستجاباً والعياذ بالله، ولكن لأن مشيئة الله تعالى وإرادته كانت سبقت بخلاف ذلك الطلب، الله تعالى شاء أن يحصل هذا الشيء من الاقتتال بين المسلمين فلم تتغير مشيئة الله تعالى ولم يتغير تقديره لأجل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في الحديث أن الله تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام (يـا محمّد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يـُردّ) رواه مسلم.