إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
اللهُ أَكْبَرُ مَعْنَاهُ اللهُ أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ قَادِرٍ وَأَعْلَمُ مِن كُلِّ عَالِمٍ، كذلك معنى اللهُ أكبَر أنّ اللهَ تَعالى فَوقَ كُلّ شَىء بالقُدرَة والعظَمة، ليسَ مَعناه بالحَجْم.
فقد أَنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في تَنْزيهِهِ الآيةَ الجامِعةَ وهي قَولُهُ تَعالى (لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) فَكانَت هذِهِ الجُملَةُ تَجمَعُ مَعانيَ كَثيرَةً مِن التَّنْزيهِ التّامِّ، فإِنَّها تُفهِم أَنَّ اللهَ تَعالى لا يُشبِهُ شَيئًا ولا يُشبِهُهُ شَىءٌ لا في ذاتِهِ ولا صِفاتِهِ ولا فِعلِهِ، فَهو تَبارَكَ وتَعالى واحِدٌ في الذَّاتِ، أَزَليٌّ أَبَدِيٌّ، مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، انفَرَدَ بِالأَزَلِيَّةِ فلا أَزَلِيَّ سِواهُ، فَالزَّمانُ والمَكانُ حادِثانِ أي مخلوقان لم يَكونا في الأَزَلِ ثمّ وُجِدا.
أَوّلُ الحادِثاتِ على ما جاءَ في الأَحاديثِ الصَّحيحَةِ عَن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ هو الماءُ، ثمّ العَرشُ المجيدُ، ثمّ القَلَمُ الأَعلى ثمّ اللّوحُ المَحفوظُ، ولم يَكُنْ لِلماءِ أَصلُ خَلقٍ مِنهُ إِنّما اللهُ تَعالى أَوجَدَ الماءَ بِقُدرَتِهِ مِن غَيرِ مادَّةٍ سَبَقَتهُ، اللهُ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ الشّىءَ الأَوَّلَ مِن غَيرِ أَصلٍ يِسبِقُهُ.
واللهُ تَعالى خلقَ الإِنسانَ مِن تُرابِ هذِهِ الأَرضِ الّتي نَعيشُ عَلَيها مِن جَميعِ أَلوانِها، أَمَرَ اللهُ تَعالى بَعضَ مَلائِكَتِهِ أَن يَقبُضَ قبضَةً مِن جَميعِ أَنواعِ التُّرابِ، ثمّ رُفِعَت هذِهِ القبضَةُ إِلى الجَنَّةِ فَعُجِنَت بِماءِ الجَنَّةِ، فَصارَ ذلِكَ التُّرابُ طينًا، ثمّ صارَ يابِسًا صلصالًا كالفَخّارِ، ثمّ وَضَعَ اللهُ تَعالى فيهِ الرّوحَ الّتي خَلَقَها قَبلَ ذلِكَ فَصارَ إِنسانًا حَيًّا مُتَحَرِّكًا بِالإِرادَةِ والاختِيارِ، ومِن لُطفِ اللهِ تَعالى على ذلِكَ الأَوّلِ مِنَ البَشَرِ الّذي هو ءادَمُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ أَن أَفاضَ عَلَيهِ مَعرِفَةَ أَسماءِ كُلِّ شَىءٍ مِن غَيرِ دِراسَةٍ على أَحَدٍ مِن مَلائِكَةِ اللهِ، بَل أُفيضَ عَلَيهِ إِفاضَةً، فَكانَ مِن أَوّلِ نَشأَتِهِ مُتَكَلِّمًا، فَهذا مِن لُطفِ اللهِ عَلَيهِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِمُجَرّدِ ما دَخَلَ الرّوحُ في ذلِكَ الهَيكَلِ البَشَرِيِّ، فَتَكَلَّمَ مَعَ الملائِكَةِ الّذينَ كانوا قَد خُلِقوا قَبلَ ذلِكَ بِزَمَنٍ يَعلَمُهُ اللهُ.
فَالحاصِلُ أَنَّ الماءَ الّذي كُوِّنَ مِنهُ هذا العالَمُ على اختِلافِ أَنواعِهِ يَرجِعُ إِلى ذلِكَ الأَصلِ الواحِدِ وهو ذلِكَ الماءُ الّذي هو تَحتَ العَرشِ، ولم يَكُن قَبلَ ذلِكَ الماءِ شَىءٌ لا زَمانٌ ولا مَكانٌ، فيجِبُ إذن الإِيمانُ أَنَّ مُبدِعَ هذا العالَمِ لا يُشبِهُهُ بِوجهِ مِنَ الوُجوهِ، فَهو مَوجودٌ لا كَالمَوجوداتِ، وقَولُنا (لا كالمَوجوداتِ) يُفهِمُ أَنّهُ تَعالى مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، مَوجودٌ بِلا خالِقٍ يَخلُقُهُ، لأَنّهُ لَم يَسبِقْهُ عَدَمٌ.
وهو تَبارَكَ وتَعالى أَيضًا مَوصوفٌ بِالقُدرَةِ والعِلمِ والإِرادَةِ لأَنَّ الإِبداعَ لا يَصِحُّ عَقلًا بِدونِ ذلِكَ، وهؤلاءِ الصِّفاتُ (العِلمُ والقُدرَةُ والإِرادَةُ) لا يَصِحُّ الاتِّصافُ بها عَقلًا إِلاّ لمَن هو مَوصوفٌ بِالحياةِ، لكِن حياتُهُ تَعالى لَيسَ كَحياةِ غَيرِهِ، حَياتُنا بِروحٍ ولحمٍ ودَمٍ، وأَمّا حَياةُ اللهِ تَعالى الّذي أَبدَعَ العالَمَ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ لَيسَت كَهذِهِ الحَياةِ إِنّما هي صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدَيَّةٌ لا تَتَطوّرُ ولا تَتَغَيَّرُ.
وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي أحد أكابر المالكية وهو من أصحاب الوجوه المتوفى سنة 422 هجرية في شرحه على عقيدة مالك الصغير ص 28 ما نصه (ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشْيء ولا سألته الصحابة عنه ولأن ذلك إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام). انتهى
وقال المفتي المالكي العلامة الفقيه أحمد بن محمد بن عبد الله المُكنِي الطرابلسي (1) (ت 1101 ھ) مفتي طرابلس الغرب ليبيا ووالده وجده كذلك، في مقدمة كتابه وهو مخطوط شُكر المنّه في نصر السُّنّة ذَكر عقيدة أهل السنة وبدأها بقوله عقيدة أهل السنة على سبيل الاختصار من كلام العلماء الأخيار، قال فيها في تنزيه الله تعالى ما نصه (لا يحُده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرض ولا السماوات، وقال أيضًا تعالى أن يحويه مكان، وتقدس أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق المكان والزمان) وبعد أن سرد هذه العقيدة قال ما نصه (فمن اعتقد جميع هذا كان من أهل الحق والسُنة وخالف أهل الضلال والبدعة).
وقال قاضي الصحراء أبو بكر (2) محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (ت 489 ھ) في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له).
وقال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (3) المالكي البجائي الجزائري (المتوفى سنة 768 هـ) في مقدمته (المقدمة الوغليسية) قال في تنزيه الله تعالى ما نصه (ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، منزه عن التركيبات والتحديدات والتقديرات وعن صفات المتحيزات ولواحق المحدثات، وهو خالق الموجودات وما يجري عليها من التبديلات والتغييرات، واحد لا شريك له (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
وقد قال الإمام السبكي في طبقات الشافعية (وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة فنقول عقيدتنا أن الله قديم أزليٌّ، لا يُشْبِهُ شيئا ولا يشبهه شىء، ليس له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقتٌ ولا زمان، ولا يقال له أين ولا حيث، يُرَى لا عن مقابلة ولا على مقابلة، كان ولا مكان، كوَّن المكان، ودبَّرَ الزمان، وهو الآن على ما عليه كان، هذا مذهب أهل السنة، وعقيدة مشايخ الطريق رضي الله عنهم).
(1) المكنى أحْمَد بن مُحَمَّد الطرابلسي المغربي الْمُفْتى المالكى الزَّاهِد يعرف بالمكنى ولد سنة 1042 وَتوفى فِي حُدُود سنة 1100 مائَة وألف صنف شكر المنة فِي نصر السّنة.
(2) في القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء كان رجلا نبيها عالما وإماما في أصول الدين وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
(3) اعتنى أهل العلم بكتاب المقدمة الوغليسية فتجلى ذلك في ما سجَّلته كتب التراجم والفهارس من شروح عليها حيث تهافت العلماء لشرحها مما ساعد على شهرتها وانتشارها وكانت وفاة الشيخ أبي زيد الوغليسي في سنة 786 هـ وقد تم دفنه في بجاية في الجزائر ومن تلاميذه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن رحمهما الله ونفعنا ببركاتهم ءامين.