إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

جاء في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي المفسّر محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح أبي عبد الله الأنصاري الخزرجي الأندلسي المالكي أن الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي القيرواني (المُتوفى سنة 489 هجري) قال في رسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء (والثامن قول المجسمة أنه سبحانه على العرش بمعنى استقرار الكائن في المكان سبحانه عن ذلك) فالله تعالى كان موجودًا في الأزلِ قبلَ خلق المكان وبعد أن خلقَ المكان هو الآن على ما عليه كان أي بِلا مكان فالله لا يتغير من حالٍ إلى حالٍ كالمخلوق.
والقاضي المُرادي هو من أوائل من اشتغل بتعليم العقيدة الإسلامية في المغرب الأقصى وفق طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري، فكان المُرادي عالما عاملا ينشر علمه بين الكبار والصغار، وله عقيدة مختصرة سهلة صاغها شفقة على المتعلمين المبتدئين لإفهامهم أصول دينهم وهذا دأب من يعمل لتصحيح عقائد الناس لتقبل أعمالهم التعبدية، قال القاضي أبو بكر المُرادي في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له))، ففي القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
 
ولزيادة الفائدة نقول قال الله تعالى (ليس كمثلِه شىء) سورة الشورى 11، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة، فلا يحتاج إلى مكان يحُل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها، بل الأمر كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) رواه أبو منصور البغدادي، وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث، ومعْنى مُخالفةِ الله للحوادِثِ أنّه لا يُشْبِهُ المخْلُوقاتِ، وهذِه الصِّفةُ من الصِّفاتِ السّلْبِيّةِ الخمْسةِ أي التي تدُلُّ على نفْي ما لا يلِيْقُ بالله.
والدّلِيْلُ العقْلِيُّ على ذلِك أنّهُ لو كان يُشْبِهُ شيْئًا مِنْ خلْقِه لجاز عليْهِ ما يجُوزُ على الخلْق مِن التّغيُّرِ والتّطوُّرِ، ولو جاز عليْهِ ذلِك لاحْتاج إلى منْ يُغيّرُهُ والمُحْتاجُ إلى غيْرِه لا يكُونُ إِلهًا، فثبت لهُ أنّهُ لا يُشْبِهُ شيئًا.
والبُرْهانُ النّقْلِيُّ لِوُجُوْبِ مُخالفتِهِ تعالى لِلْحوادِثِ قوله تعالى (ليس كمثله شىء) وهُو أوْضحُ دلِيْلٍ نقْلِيّ في ذلِك جاء في القُرءانِ، لأنّ هذِهِ الآية تُفْهِمُ التّنْزِيْه الكُلِّيّ لأنّ الله تبارك وتعالى ذكر فِيْها لفْظ شىءٍ في سِياقِ النّفْي، والنّكِرةُ إِذا أُوْرِدت في سِياقِ النّفْي فهِي للشُّمُوْلِ، فالله تبارك وتعالى نفى بِهذِهِ الجُمْلةِ عنْ نفْسِهِ مُشابهة الأجْرامِ والأجْسامِ والأعراضِ، فهُو تبارك وتعالى كما لا يُشْبِهُ ذوِي الأرواحِ مِنْ إِنسٍ وجِنّ وملائِكةٍ وغيْرِهِم، لا يُشْبِهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلْوِيّةِ والسُّفْلِيّةِ أيضًا، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفْي الشّبهِ عنْهُ بنوْعٍ منْ أنْواعِ الحوادِثِ، بل شمل نفْيُ مُشابهتِهِ لِكُلّ أفْرادِ الحادِثاتِ، ويشْملُ نفْيُ مُشابهةِ الله لخلْقِه تنْزِيْهه تعالى عن المكان والجهة والكميّة والكيْفِيّةِ، فالكمّيّةُ هِي مِقْدارُ الجِرمِ، فهُو تبارك وتعالى ليْس كالجِرمِ الذي يدْخُلُهُ المِقْدارُ والمِساحةُ والحدُّ، فهُو ليْس بِمحْدُودٍ ذِي مِقْدارٍ ومسافةٍ.
فلو كان الله فوق العرشِ بذاتِهِ كما يقولُ المشبِّهةُ لكان محاذيًا للعرشِ، ومِنْ ضرورةِ المُحاذِي أنْ يكون أكبر مِن المحاذى أو أصغر أو مثله، وأنّ هذا ومثله إنما يكونُ في الأجسامِ التي تقبلُ المِقدار والمساحة والحدّ، وهذا مُحالٌ على الله تعالى، وما أدّى إلى المُحالِ فهو محالٌ، وبطل قولُهُم إن الله متحيّزٌ فوق العرشِ بذاتهِ. ومنْ قال في الله تعالى إِنّ لهُ حدًّا فقدْ شبّههُ بخلْقِهِ لأنّ ذلِك يُنافي الألُوهِيّة، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ لاحتاج إِلى منْ جعلهُ بذلِك الحدّ والمِقْدارِ كما تحتاجُ الأجْرامُ إِلى منْ جعلها بحدُوْدِها ومقادِيْرِها لأنّ الشّىء لا يخْلُقُ نفْسه بمِقْدارِه، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ كالأجْرامِ لاحْتاج إلى منْ جعلهُ بذلك الحدّ لأنّه لا يصِحُّ في العقْلِ أنْ يكُون هُو جعل نفْسه بذلِك الحدّ، والمُحْتاجُ إِلى غيْرِهِ لا يكُونُ إِلهًا، لأنّ مِنْ شرْطِ الإلهِ الاسْتِغْناء عنْ كُلّ شىءٍ.
قال الله تعالى (وللهِ المثَلُ الأعلى) سورة النحل 60، أي الوصف الذي لا يشبه وصف غيره، فلا يوصف ربنا عزَّ وجلَّ بصفات المخلوقين من التغيّر والتطور والحلول في الأماكن والسُّكْنى فوق العرش، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا، وقد قال المفسِّر اللغوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره (وللهِ المثَلُ الأعلى) أي الصفة العليا من تنـزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرةُ إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة.
ومما يدل على ما قدمنا قول الله تعالى (فلا تضربوا للهِ الأمثال) سورة النحل 74، أي لا تجعلوا لله الشبيهَ والمِثْل فإن اللهَ تعالى لا شبيه له ولا مثيل له، فلا ذاتُه يشبه الذواتِ ولا صفاتُه تشبه الصفاتِ.
وقال الله تعالى (هل تعلمُ لهُ سميًّا) (سورة مريم 65) أي مِثلاً، فالله تعالى لا مِثْلَ له ولا شبيه ولا نظير، فمن وصفه بصفة من صفات البشر كالقعود والقيام والجلوس والاستقرار يكون شَبَّهَهُ بهم، ومن قال بأن الله يسكن العرش أو أنه ملأه يكون شبّه اللهَ بالملائكة سُكّان السّموات. وهذا الاعتقاد كفر والعياذ بالله تعالى لتكذيبه قول الله (ليس كمثله شىء) (سورة الشورى 11)، وقول الله تعالى (هل تعلمُ له سميًّا) (سورة مريم 65) وكذلك مما يدل على تنـزيهه تعالى عن المكان قول الله تعالى (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) سورة الحديد 3 قال الطبري في تفسيره (فلا شىء أقرب إلى شىء منه، كما قال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (سورة ق 16) أي أن الطبري نفى القُرْبَ الحِسِّي الذي تقول به المجسمةُ، أما القرب المعنوي فلا يَنفيه، وهذا دليل على تنزيه الله عن المكان والجهة، فالله تعالى هو الأول أي الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، كان ولم يكن مكانٌ ولا زمان ثم خلق الأماكنَ والأزمنة ولا يزال موجودًا بلا مكان، ولا يطرأ عليه تغيّر لا في ذاته ولا في صفاته.
وقال الله تعالى (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) سورة الإخلاص 4 أي لا نظير له بوجه من الوجوه، وهذه الآية قد فسَّرتها ءاية الشورى (ليس كمثله شىء).
وقال الله تعالى (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) سورة البقرة 115 قال المفسّر اللغوي الشيخ أبو حيان الأندلسي ما نصه (وفي قوله تعالى (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (سورة البقرة 115) ردٌّ على من يقول إنه في حيِّز وجهة، لأنه لمّا خيَّر في استقبال جميع الجهات دلَّ على أنه ليس في جهة ولا حيِّز، ولو كان في حيِّزٍ لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن، فحيث لم يُخصِّص مكانًا علِمْنا أنه لا في جهة ولا حيِّز، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه، فأيّ جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره.
 
(1) قاضي الصحراء أبو بكر محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (المتوفى سنة 489 ھ) أحد أهم أقطاب الأشاعرة في المغرب العربي، عالم وإمام في أصول الدين وهو مغربي من المرابطين وأصله من القيروان.