إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

يقول الله سبحانه و تعالى في كتابه الكريم (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)).
 
شرع الله تعالى يدلكم على سبيل الوصول إلى دار السلام، وهي الجنة التي أعدها الله للمؤمنين به، والله يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم الذي جعله جلَّ ثناؤه سببا للوصول إلى رضاه، وطريقا لمن سلك فيه إلى جنانه وكرامته.
إنَّ الفوز الحقيقي هو الفوز في الآخرة والسعيد من فاز هناك والطريق إلى ذلك هو التقوى أي أداء الطاعات واجتناب المنكرات فمن أحسن في هذه الدنيا فله الحسنى وزيادة كما قال عزَّ مِن قائل (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)) أي الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي وعدهم الله بالحسنى وهي الجنة وأما الزيادة فهي نعيم زائد يحصلون عليه وهم في الجنة وهو رؤية الله تعالى بلا تشبيه، يرونه لا كما يُرى الخلق المخلوق، يرونه بلا كيف، يرونه بلا مكان، يرونه بلا جهةٍ لأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ليس جسما و لا يشبه الأجسام، لا تدركه الأفهام ولا تبلغه الأوهام ولا يشبه الأنام مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك أي لا يشبه ذلك لا يشبه الإنس ولا الجن ولا السماء ولا الأرض ولا الهواء ولا النار.
رؤية الله هي أعظم نعيم أهل الجنة فليس شيء أحب إلى أهل الجنة من رؤية الله وقد ورد أن بعضهم يرون الله في الأسبوع مرة وبعضهم يرونه سبحانه كل يوم مرتين، كلٌّ بحسب درجته وعلوِّ مقامه عند الله لأن نعيم أهل الجنة متفاوت وذلك على حسب ما قدَّم الشخص من الأعمال، وهذه الرؤية للمؤمنين بعد دخولهم الجنة ثابتة في الشرع مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة فلا يجوز نفْيُها ويدلُّ على ذلك قول الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴿22﴾ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿23﴾) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه (إنكم سَتَرَونَ ربَّكُم يومَ القيامةِ كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تَضامُّونَ في رؤيته) أي لا تتزاحمون في رؤيته وذلك لأن رؤية الله لا تكونُ بالمقابلة والمواجهة إنما اللهُ يكشِفُ الحجاب عن أبصار المؤمنين أي يُعطي المؤمنين في أبصارهم قوةً يَرَوْنَ بها الله بلا جهة ولا مكان كما نبَّه على ذلك الإمام أبو حنيفةَ رضي الله عنه، فإنه قال [ولقاءُ اللهِ لأهل الجنة (أي رؤيتهم لله) بلا جهة ولا تشبيه ولا كيف حق].
الله سبحانه وتعالى لا يُشبهُ القمرَ حاشا وكلاَّ إنما النبيُّ صلى الله عليه وسلم شبَّه رؤيتنا لله من حيث عدم الشك برؤية القمر ليلة البدر ولم يشبه الله تعالى بالقمر، فكما أن مُبْصِرَ القمر ليلة البدر ليس دونه سحابٌ لا يَشُكُّ أن الذي رءاه هو القمر كذلك المؤمنون عندما يرون الله تعالى يرونه رؤيةً لا يكونُ عليهم فيها اشتباهٌ فلا يشكُّون هلِ الذي رأوْه اللهُ أو غيره، لأنهم يَرَوْنَ من ليس كمثله شيء، هذا معنى الحديث وليس الأمر كما توهَّم بعض الجهال ممن لم يتعلم علم التوحيد فإنه لما سمع هذا الحديث اعتقد أنَّ اللهَ يُشبه القمر وذلك كفرٌ بالله تعالى لأنه تكذيبٌّ لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ولكنَّ الله يسَّر له الخير فسأل بعض العلماء عن ذلك فبيّن له الصواب فرجع إلى الإسلام بالشهادتين ولله الحمد.
 
هذا التفسير الذي ذكرناه نصَّ عليه علماء أهل السنة والجماعة وهو يفهم من رواية البخاري لهذا الحديث ففيه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هَلْ تُمارُونَ (والمريةُ الشَّكُّ) في القمرِ ليلةَ البدْرِ ليس دونهُ سحابٌ قالوا لا يا رسول الله قال (فهل تُمارونَ في الشمسِ ليس دونها سحابٌ) قالوا لا قال (فإنكم تَرَوْنَهُ كذلك).
 
قال ابن حجرٍ العسقلانيُّ في فتح الباري قوله (ترونه كذلك) المراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك ورفع المشقة والإختلاف وقال البيهقي سمعت الشيخ أبا الطَّيّبِ الصُّعْلُوكِيّ يقول (تضامُّون) بتشديد الميم يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض فإنه (الله) لا يرى في جهة.
 
فرؤيتنا لله تعالى ليست كرؤية المخلوقات في جهة أمام أو خلف أو فوق أو تحت أو يمين أو شمال بل يراه المؤمنون من غير أن يكون سبحانه في جهة واحدة ومن غير أن يكون في كل الجهات لأن الجهات كلها مخلوقة خلقها الله وكان قبلها بلا جهة والأماكن بلا مكان وهو بعد خلق الجهات والأماكن لا يتغير موجود بلا جهة ولا مكان.
 
فجزى الله عنا علماء أهل السنة الذين بينوا خيرا وجزى الله عنا نبينا محمداً الداعي إلى الحق خيراً وجمعنا به في عليين، والله تعالى نسأل أن يوفقنا إلى صالح الأعمال وأن يختم لنا بخير ويدخلنا الفردوس الأعلى برحمته ويكرمنا برؤيته ذاته الكريم لننعم بذلك مع المتنعمين.