إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

اعلم رَحِمَكَ اللهُ أنّ خّالقَ العَالَـمِ لا يُشبِهُ العالـم بوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ليسَ جِسمًا ولا يُشبِهُ الأجسامَ وليسَ في جِهَةٍ ومكانٍ، وإنّ مـما يـجِبُ التّحذِيرُ مِنهُ قَولَ بَعضِهم عن اللهِ إنّه حَاضِرٌ أو غَائبٌ لأنّ ذلكَ مِن صِفاتِ الأجسَام، الـجِسمُ إمّا أن يَكُونَ حاضِرًا أو غَائبًا، وكذلك لا يـجُوزُ أن يُقالَ عن اللهِ إنه دَاخِلُ العَالـمِ أو خَارجُ العَالـم لأنَّا إنْ قُلنَا إنه دَاخِلُ العَالـم جَعلنَاهُ مَـحصُورًا وإنْ قُلنَا إنّه خَارجُ العَالـم جَعلنَا بَينَه وبَينَ العَالـم مَسافَة واللهُ مُنَزَّهٌ عن ذَلكَ.
 
وكَذلكَ لا يُقالُ عن اللهِ صاحبٌ، أمّا مَا وَردَ في الـحدِيثِ في أَدعِيَةِ الـمُسَافرِ (اللّهُمَّ أَنتَ الصّاحِبُ في السَّفرِ والـخَليفَةُ في الأَهلِ والـمالِ) فمَعنَاهُ أَنتَ الـمُطّلِعُ عَليَّ في السَّفَرِ والذي يَـحفَظُ ويَرعَى في السّفَر، أي أَنتَ الـحَافِظُ والـمُعِينُ في السّفَرِ، والـخَلِيفَةُ في الأهلِ مَعنَاهُ احفَظْ لي أَهلِي في غَيبَتي.
 
عن ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عَنهما أنّ رسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسَلم كان إذا استَوَى عَلى بَعِيرِه خارجًا إلى سَفرٍ كَبَّر ثلاثًا ثـمّ قالَ (سُبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا ومَا كُنَّا لَه مُقرِنِينَ وإِنَّا إلى رَبّنَا لـمنقَلِبُونَ، اللّهُمَّ إنّا نَسأَلُكَ في سَفَرِنَا هَذا البِرَّ والتّقوَى ومِنَ العَمَلِ مَا تَرضَى، اللَّهُمّ هَوّنْ عَينا سَفرَنا هذا واطْوِ عَنّا بُعدَه، اللَّهُمَّ أنتَ الصّاحِبُ في السّفَرِ والـخَلِيفَةُ في الأَهلِ، اللّهُمَّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السّفَرِ وكآبةِ الـمَنظَرِ وسُوءِ الـمُنقَلبِ في الـمالِ والأهلِ) وإذا رَجَعَ قَالـهُنَّ وزَادَ فِيهِنَّ (ءايِبُونَ تائِبُونَ عَابِدُونَ لرَبّنَا حَامِدُونَ) رواهُ البخاريُّ ومسلم.
 
قولُهُ (ومَا كُنّا لَهُ مُقرِنِينَ) أي مُطِيقِين أي ما كُنَّا نُطِيقُ قَهرَهُ واستِعمَالَهُ لَولا تَسخِيرُ اللهِ تَعالى إيّاهُ لنَا.
وقولُهُ (وَعْثَاءِ السّفَر) أي شِدَّتِهِ ومَشَقّتِه.
وقولُهُ (وَكَآبةِ الـمنظر) تغيُّرِ النَّفْسِ مِن حُزْنٍ ونـحوِه.
وقولُهُ (والـمُنقَلَب) الـمرجِع.
 
وأمّا مَا يُقَالُ مِن أنّ العَبد يَقِفُ بَينَ يَدَيِ اللهِ يَومَ القِيامةِ فَليسَ مَعنَاه أنّ اللهَ يقِفُ في مَوقِفِ الـحِسَابِ يَومَ القِيامةِ وأنّ العَبدَ يَكونُ قَريبًا مِنه، وإنّـما مَعناهُ العَبدُ يكونُ في حالِ الـمُحاسَبةِ لأنّ اللهَ يُسمِعُ كُلَّ إنسانٍ يومَ القِيامةِ كلامَه الذي ليسَ حَرفًا ولا صوتًا، هذا مَعنى بَينَ يَدَيِ الله، وليسَ مَعنَاه أنّ الإنسانَ يَكونُ قَرِيبًا مِنَ الـمكانِ الذي فيهِ اللهُ، لأنَّ اللهَ مَوجُودٌ بلا مَكَانٍ.
بينَ يَديِ اللهِ أي في مَوقِفِ الـحِسَاب، العَرشُ والأرضُ السّابعةُ بالنّسبةِ إلى ذاتِ اللهِ على حَدّ سَواءٍ، ليسَ أحدُهما أقربَ منَ الآخَر منَ اللهِ مِنْ حَيثُ الـمسَافةُ، ليسَ اللهُ قَريبًا مِنْ شَىءٍ بالـمَسافَةِ ولا بَعِيدًا بالـمَسافَة، القُربُ الـمَسافِيُّ والبُعدُ الـمَسافيُّ يكونُ بينَ مـخلُوقٍ ومـخلُوق.
 
وَسُبْحَانَ اللهِ وَالـحَمْدُ للهِ رَبّ العالـمِين.