إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال الإمام الفقيه المالكي أبو عبد الله محمد بن عرفة شيخ الإسلام بتونس وشيخ جامع الزيتونة في تفسيره (1) لسورة الأعراف (فالله تعالى يستحيل عليه المكان فالرؤية جائزة في حقه، ووجهه عند المتأخرين أن الشرع أخبر بأنه لَا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة) وقال في تفسير قوله تعالى (ولله المشرق و المغرب) سورة البقرة (وفيه ابطال بالقول بالجسم والجهة لأنه لوكان الإله جسما لزم عليه حلول الجسم الواحد في الزمن الواحد في محال متعددة وهو محال) وقال في تفسير قوله تعالى (ثم ازدادوا كفرا) سورة آل عمران (فكفروا أولا بعدم التوحيد ثم ازدادوا بادعاء التجسيم).
واعلم أن المسلمين اتفقوا على أن الله تعالى لا يحلُّ في مكان، ولا يحويه مكان ولا يسكن السماء ولا يسكن العرش، لأن الله تعالى موجود قبل العرش وقبل السماء وقبل المكان، ويستحيل على الله التغيّر من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة أخرى، فهو تبارك وتعالى كان موجودًا في الأزل بلا مكان، وبعد أن خلق المكان لا يزال موجودًا بلا مكان. وما سنذكره في هذا البحث بمشيئة الله تعالى وعونه وتوفيقه من أقوالٍ في تنـزيه الله عن المكان لأعلام ظهروا على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن منذ الصدر الأول أي منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا يُعْتَبَرُ من أقوى الأدلة على رسوخ هذه العقيدة وثبوتها في نفوس المسلمين سلفًا وخلفًا.
وليُعلم أن أهل الحديث والفقه والتفسير واللغة والنحو وعلماء الأصول، وعلماء المذاهب الأربعة من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة (إلا من لحق منهم بأهل التجسيم) والصوفية الصادقين كلهم على عقيدة تنـزيه الله عن المكان، إلا أن المشبهة ومنهم نفاة التوسل شذّوا عن هذه العقيدة الحقة فقالوا إن الله يسكن فوق العرش والعياذ بالله تعالى، وممن نقل إجماع أهل الحق على تنـزيه الله عن المكان الشيخ الفقيه محمد مَيَّارة المالكي (1072هـ) ما نصه (أجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف). اهـ
وقال شيخ الجامع الأزهر سليم البِشْري المالكي (1335هـ) ما نصه (مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السُّنّيون أن الله تعالى منـزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنـزهه عن الجهة والمكان) ذكره القضاعي في فرقان القرءان.
وقال الشيخ يوسف الدجوي المصري المالكي (1365 هـ) عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر ما نصه (واعلم أن السلف قائلون باستحالة العلو المكاني عليه تعالى، خلافًا لبعض الجهلة الذين يخبطون خبط عشواء في هذا المقام، فإن السلف والخلف متفقان على التنـزيه) وقال أيضًا (هذا إجماع من السلف والخلف). اهـ
وقال المحدث الشيخ محمد عربي التبان المالكي المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي (1390هـ) ما نصه (اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منـزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته). اهـ
وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي أحد أكابر المالكية وهو من أصحاب الوجوه المتوفى سنة 422 هجرية في شرحه على عقيدة مالك الصغير ص 28 ما نصه (واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء اتباع للنص، وتصديق لما وصف به نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشْيء ولا سألته الصحابة عنه ولأن ذلك إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام). انتهى
وقال الشيخ عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429 هـ)، فقد قال ما نصه (وأجمعوا (أي أهل السنة والجماعة) على أنه (أي الله) لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان).
وقال الشيخ إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجُويني الشافعي (478هـ) ما نصه (ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصص بالجهات). اهـ
وقال المفسّر الشيخ فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه (انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيّز). اهـ
وقال الشيخ إسماعيل الشيباني الحنفي (629 هـ) ما نصه (قال أهل الحق إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهة خلافًا للكرّامية والمجسمة). اهـ
وقال سيف الدين الآمدي (631 هـ) ما نصه (وما يُروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها والإيمان بتنزيلها وتلاوة كل ءاية على ما ذكرنا عنهم، وبيَّن السلف الاختلاف في الألفاظ التي يطلقون فيها، كل ذلك اختلاف منهم في العبارة، مع اتفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكن في مكان ولا متحيّز بجهة). اهـ
وللشيخ ابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (733 هـ) رسالة ألَّفَها في نفي الجهة ردَّ بها على المجسم الفيلسوف ابن تيمية الحرَّاني الذي سَفَّه عقيدة أهل السنة، وطعن بأكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر وعليّ رضي الله عنهما.
قال ابن جَهْبَل ما نصه (وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة، فنقول عقيدتنا أن الله قديم أزليٌّ، لا يُشبِهُ شيئًا ولا يشبهه شىء، ليس له جهة ولا مكان). اهـ
ونقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري (771 هـ) عن الشيخ فخر الدين بن عساكر أنه كان يقرىء العقيدة المرشدة (2) التي فيها (إن الله تعالى موجود قبل الخلق ليس له قَبْلٌ ولا بَعْدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خَلْفٌ) ثم قال ابن السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه (هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سُنّي). اهـ
ووافقه على ذلك الحافظ المحدّث صلاح الدين العلائي (761 هـ) أحَد أكابر علماء الحديث فقال ما نصه (وهذه (العقيدة المرشدة) جرى قائلها على المنهاج القويم، والعَقْد المستقيم، وأصاب فيما نزَّه به العليَّ العظيم). اهـ
وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376 هـ) ما نصه (أجمع أهل الحق من علماء السلف والخلف على تنـزه الحق (سبحانه) عن الجهة وتقدسه عن المكان). اهـ
وممن نقل الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من مؤلفاته ودروسه المتكلم على لسان السلف الصالح العلامة الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله وله عناية شديدة بتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة للناس فقال ما نصه: قال أهل الحق نصرهم الله (إن الله سبحانه وتعالى ليس في جهة) فالحمد لله على ذلك.
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء بقوله (وإنه سيخرج من أمتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلا دخله) رواه أبو داود.
فالحمد لله الذي جعل لنا من يبيِّن عقيدة أهل السنة ويدافع عنها وتمسك أخي المسلم بهذه العقيدة التي عليها مئات الملايين من المسلمين، والحمد لله على توفيقه.
(1) تفسير الإمام ابن عرفة (محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي أبو عبد الله المتوفى 803هـ).
(2) فإن صاحب العقيدة المرشدة هو ابْنُ تُوْمَرتَ وهو أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِي مَاتَ فِي ءاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وكان انتشارها وشيوعها أولاً في المغرب الأقصى ثم في المغرب الأوسط ثم في إفريقية فقد كانت العقيدة المرشدة معروفة بتونس متناولة فيها بالحفظ والدراسة وقد قام بشرحها الفقيه المالكي أبو عبد الله محمد بن خليل السكوني الأشعري ومما يدل على عناية أهل تونس بالعقيدة المرشدة أن أبا القاسم البُرْزُلي أحد أئمة المالكية في المغرب (ت 844 هـ) ذكرها في نوازله وأورد نصها كاملاً، ثم شاعت في المشرق وبقيت أكثر من أربعة قرون يرددها المؤذنون في وقت التسبيح، وقد اهتم بتدريسها الإمام فخر الدين بن عساكر المتوفى سنة 620 هـ، ففي طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي ج 5 ص 69 – 70 أن الشيخ فخر الدين ابن عساكر (رحمه الله) كان يقرىء بالقدس العقيدة المرشدة.