إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

أقسام حكم العقل
 
قال الشيخ أبو البركات الدردير (1) المالكي في الخريدة البهية:
 
أقسام حكم العقل لا محالة *** هي الوجوب ثم الاستحالة
ثم الجواز ثالث الأقسام *** فافهم منحت لذة الأفهام
 
فَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ الْوُجُوب وَالاِسْتِحَالَة وَالْجَوَاز، الْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ عَدَمُهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ، وَالْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ، كَوُجُودِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ، وَالْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ.
والدّليلُ العَقليُّ في وجوبِ تَنزيه الله عن مُشابهةِ البشَر وغَيرِهم مِن أنواع العالَم وأجناسِه هو أنّ الخالقَ المكوِّنَ للشّىء يستَحيلُ أن يكونَ مُشابهاً لهُ،
لذلكَ الله تباركَ وتعالى حَضَّ في ءاياتٍ عَديدةٍ على التّفَكّر في مَصنُوعاتِه أي مخلوقاتِ الله تعالى، حتى إنّ القرآنَ الكريم أرشَدَنا إلى التّفَكّرِ في مَا أودَعَهُ الله تعالى فِينا في هذا الجسم البَشرِيّ كما أَرشَدنا إلى التّفَكّر بالعالم العُلويّ والعالَم السُّفليّ، قال الله تعالى (وفي الأرضِ ءاياتٌ للمُوقِنِينَ وفي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبصِرُون) والمعنى أنّ هذهِ الأرضَ فيها دَلائلُ على وجُودِ خَالقٍ لها، بإحداثِه لها حدَثَت ولَولا إحْداثُه لم تُحدِث نفسَها، كذلكَ هذا الانسانُ علِمَ أنّهُ لم يكن ثم كانَ، وما كانَ بعدَ أن لم يَكن فلا بُدَّ لهُ مِن مُكوّن فتَكونُ النّتيجةُ أنا لا بُدّ لي مِن مُكوِّن، ويعلَمُ بعدَ إيْرادِ هذا الاستدلالِ أنّ مُكوِّنَهُ مَوجُودٌ لا يُشبِهُه.
وقال أبو حيان في تفسيره عند قوله تعالى (وَفِى أَنفُسِكُمْ حالَ ابتِدائها وانتقَالها مِن حَالٍ إلى حالٍ، وما أُودِعَ في شَكل الإنسانِ مِن لطَائِف الحواسِّ، وما تَرتّب على العَقلِ الذي أُوتِيَهُ مِنْ بَدائِع العلُوم وغَريبِ الصَّنائع، وغيرِ ذلكَ مما لا يَنحَصِر)، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى ليَبتَلِيَ عبادَه أَنزلَ ءاياتٍ في القرآنِ الكريم ظَواهرُها غيرُ مُرادَةٍ لله تباركَ وتعالى إنما أنزَلها ابتلاءً لعبادِه لأنّه يَعلَمُ أنّ بعضَ العباد لا يحمِلونَ هذه الآياتِ على ظواهرِها بل يضَعونها في مواضِعَ تليقُ بها منَ التَّنزيه، وإنّ بعضَهم يضَعُونها في غيرِ مَواضعِها، أولئك الذين وضَعُوها في مواضعِها ولم يحمِلُوها على ظَواهرها سَعِدوا ونالوا مَراتبَ عاليةً عندَ الله لأنهم حمَلُوا هذه الآياتِ على ما يَليقُ بها، ما حمَلُوها على خلافِ هذا التّنزيه المطلَق ليسَ كمثلِه شىء، لأن ليسَ كمثلِه شَىء يُعطِي تنزيه اللهَ عن مشابهةِ خلقِه بوجْهٍ مِنَ الوجُوه، فلا يتزَحزَح المؤمنُ الموفَّقُ حِينَما يقرأ تلكَ الآيات التي ظَواهرُها يُوهِمُ خِلافَ ما تُعطِيهِ هذِه الآيةُ مِنَ التّنزيهِ المطلَق، يُوَفِّقُ بينَ هذِه الآيةِ وبينَ تلكَ الآياتِ فلا يَزيغ عن الصّواب فإذا سمع بآيةِ (الرّحمنُ علَى العَرشِ استَوى)، وآية (إليهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطّيّب)، لا يفهَمُ منها أن الله مُستَقِرّ على العرش أو أنّه بمحاذاةِ العرش، وكذلكَ لما يَقرأ أو يَسمَع (إليه يَصعَدُ الكَلِمُ الطّيّب) لا يَفهَمُ أنّ الله مُستَقِرٌّ في مَكانٍ تَصعَدُ إليه الملائكة بأعمالِ العِباد، إنما يقولُ هذه الآية وآيةَ الاستواء على العرش كِلتاهما لهما معنىً غيرُ المعنى المتبَادِر إلى الذِّهن الذي هو مُشابِه للخَلق، يقولُ المراد بهما غَيرُ هذا المعنى، فيكونُ اكتَسَب أَجْرًا كبِيراً بإعمَالِ ذِهنه في التّوفِيق بينَ الآياتِ، بينَ آيةِ ليسَ كمِثلِه شَىء التي تُعطِي التّنزيه المطلَقَ وبينَ مَا سِواها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ وآيةِ صُعُود الملائكةِ بأعمالِ العِباد إلى السّماءِ وغير ذلكَ منَ الآيات، وكذلكَ هناك أحاديثُ نَبوية الله تعالى أوحَى بها إلى نبِيّه ليُبَلّغَها كما أُوحِيَ إليه فبلّغَها لأمّتِه كمَا أُوحِيَ إليه، هذه الأحاديثُ أيضاً قد يَفهمُها الفَاهِمُ على الوجهِ الصّحيح وقَد يفهمُها العبدُ المخذُولُ الذي لم يوفِّقْه الله تعالى للصّواب والرّشَاد على خِلاف المرادِ بها.
ومِن هذه الأحاديثِ التي لا يجوز حملُها على ظَواهرِها بل يجبُ تَركُ حملِها على الظّواهِر، حديث (يَنزل رَبُّنا كلَّ ليلَةٍ إلى سماءِ الدّنيا فيقول هل مِن مُستغفِر فأغفرَ له”،إلى آخره) رواه البخاري ومسلم، هذا الحديثُ يَفهمُ منه الموفَّق أن هذا النّزول الذي نَسبَه الرسولُ إلى الله ليسَ نُزولَ حَركةٍ ونُقلَةٍ إنما هو أمرٌ آخَرُ يَليق بالله تَعالى ليسَ مِنْ صِفاتِ البشَر وإمّا أن يقولَ هذا النّزولُ نزولٌ بأمرِ الله فإنّ الملَك لما يَنزِلُ بأمر الله فيُنادِي مبلِّغًا عن الله، هذا الملَكُ مَا نزَلَ إلا بأمرِ الله، نزَلَ لِيُبلِّغ عن الله تعالى فصحّ نِسبتُه إلى اللهِ تَبارك وتعالى لأنّه هوَ الآمِر، لأنّ هذا مَعروفٌ في تخاطُب العَرب أنّ هَذا إسنادٌ مجَازيٌ، يَنزِلُ ربُّنا أي يَنزلُ مَلَكُ ربّنا، يقالُ له مَجازُ الحذفِ عندَ عُلَماءِ البيان، حُذِفَ لَفظُ الملَك لأنّه يُفهَم، العَقلُ الصّحيح يَفهَم أن ظاهرَه غيرُ مُراد لأنّه لا يجوز على الله النّزولُ الذي هو مِنْ صِفاتِ البشر.
 
(1) هو أحمد بن أحمد بن أبي حامد العَدوي المالكي الأزهري الخَلْوَتِي الشهير بأحمد الدردير وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب‎، وقد تلقب بـالدردير لأن قبيلة من العرب نزلت ببني عدي وكان كبيرهم رجل مبارك من أهل العلم والفضل يدعى الدردير فلُقِّبَ الشيخ أحمد به تفاؤلا.