إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي المالكي (قال جمهور الأشاعرة وفي مقدمتهم إمام الحرمين إن معنى الإستواء القهر والغلبة والإستيلاء).
وقال في التحرير والتنوير في تفسير (قول الله تعالى ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ وَإِضَافَةُ عَرْشٍ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ مِثْلُ إِضَافَةِ الْكَعْبَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَة﴾ (الْحَج 26)، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنِ السُّكْنَى فِي بَيْتٍ). انتهى
ولزيادة الفائدة نبين مسلك العلماء في تأويل ءاية الاستواء، فقد ورد قرءانًا وصف الله بأنه مستوٍ على العرش، فيجب الإيمان بذلك بلا كيف، فليس بمعنى الجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة للعرش، لأن ذلك كَيْفٌ، والله منـزه عن الاستواء بالكيف، لأنه من صفات الأجسام، بل نقول استوى على العرش استواء يليق به هو أعلم بذلك الاستواء، وهذا موافق ومنسجم مع الآية المحكمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ)، واعلم أن لعلماء أهل الحق مسلكان كل منهما صحيح:
الأول مسلك السلف وهم من كان من أهل القرون الثلاثة الأولى، قرن أتباع التابعين وقرن التابعين وقرن الصحابة وهو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء يسمون السلف، والغالب عليهم أن يؤولوا الآيات المتشابهة تأويلا إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين، بلا تعيين معنى خاص كآية (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (سورة طه) وغيرها من المتشابه بأن يقولوا بلا كيف أو على ما يليق بالله، وهذا يقال له تأويل إجمالي، أي قالوا استوى استواء يليق به مع تنزيهه عن صفات الحوادث، ونفوا الكيفية عن الله تعالى أي من غير أن يكون بـهيئة ومن غير أن يكون كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وغيرها مما هو صفة حادثة، هذا مسلك غالب السلف ردّوها من حيث الاعتقاد إلى الآيات المحكمة كقول الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ) (سورة طه) وتركوا تعيين معنـًى معيـَّنٍ لـها مع نفي تشبيه الله بخلقه.
فقد ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه الأسماء والصفات بإسناد جيد كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح من طريق عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استواؤه؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما وصف نفسه، ولا يقال كيفَ وكَيْفَ عنه مرفوعٌ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال فأخرج الرجل.
فقول الإمام مالك (وكيف عنه مرفوع) أي ليس استواؤه على العرش كيفا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه.
وقوله (أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه)، وذلك لأن الرجل سأله بقوله كيف استواؤه، ولو كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على ظاهرها ما كان اعترض عليه.
قال المحدث الشيخ سلامة القضاعي العزامي (1376 هـ) من علماء الأزهر عن قول مالك لذاك الرجل صاحب بدعة (لأن سؤاله عن كيفية الاستواء يدل على أنه فهم الاستواء على معناه الظاهر الحسي الذي هو من قبيل تمكن جسم على جسم واستقراره عليه، وإنما شك في كيفية هذا الاستقرار، فسأل عنها، وهذا هو التشبيه بعينه الذي أشار إليه الإمام بالبدعة). اهـ
وروى الحافظ البيهقي من طريق يحيى بن يحيى قال كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فكيف استوى؟ قال فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج.
قوله (الاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم وروده في القرءان، ولا يعني أنه بمعنى الجلوس ولكن كيفية الجلوس مجهولة، كما زعم بعض المجسمة، وقوله (والكيف غير معقول) معناه أن الاستواء بمعنى الكيف أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل، لكونه من صفات الخلق، لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء أي كأليةٍ وركبةٍ، وتعالى الله عن ذلك، فلا معنى لقول المشبهة الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، يقصدون بذلك أن الاستواء الجلوس لكن كيفية جلوسه غير معلومة، لأن الجلوس كيفما كان لا يكون إلا بأعضاء، وهؤلاء يوهمون الناس أن هذا مراد مالك رضي الله عنه، فلا يُغترّ بتمويهاتهم.
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نصه (وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله (كيف غير معقول) أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله (والاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، (والإيمان به) على الوجه اللائق به تعالى (واجب) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه). اهـ
فنفي الكيف عن الله تعالى أي الهيئة وكل ما كان من صفات الخلق، كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وما شابه ذلك، محل اتفاق بين علماء أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه (ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله) يعني رضي الله عنه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسيَّة الجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.
وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه (فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك)، وقال في موضع ءاخر (وحكينا عن المتقدمين من أصحابنا ترك الكلام في أمثال ذلك، هذا مع اعتقادهم نفي الحد والتشبيه والتمثيل عن الله سبحانه وتعالى) ثم أسند إلى أبي داود قوله (كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث لا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر)، قال أبو داود (وهو قولنا) قلت (وعلى هذا مضى أكابرنا) وقال في موضع ءاخر عن الأوزاعي عن الزهري ومكحول قال أمضوا الأحاديث على ما جاءت، ثم قال سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه، أي ظاهرها يوهم ذلك فقالوا (أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفية). اهـ
ومن علمائنا المالكية من تأول الاستواء على العرش بالقهر والاستيلاء الشيخ برهان الدين إبراهيم اللقاني المالكي (ت 1041 هـ) في شرحه على منظومته جوهرة التوحيد والشيخ أحمد بن غنيم النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني قال ما نصه (استوى أي استولى بالقهر والغلبة استيلاء ملك قاهر وإله قادر، ويلزم من استيلائه تعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه). اهـ
والشيخ محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المالكي (ت 1227 هـ) في شرحه على توحيد العالم الماهر سيّدي عبد الواحد بن عاشر مفسرًا الاستواء على العرش بالقهر والغلبة، كقوله (فلما علونا واستوينا عليهم *** جعلناهم مرعى لنسر وطائر) وقوله (قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مــهــراق) وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن استولى على أعظمها كان استيلاؤه على غيره أحرى). اهـ
والشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنوفي المالكي المصري (ت 939 هـ) قال في كتابه كفاية الطالب ما نصه (فمعنى استوائه على عرشه أن الله تعالى استولى عليه استيلاء ملك قادر قاهر، ومن استولى على أعظم الأشياء كان ما دونه في ضمنه ومنطويًا تحته، وقيل الاستواء بمعنى العلو أي علو مرتبه ومكانة لا علو المكان). اهـ.
والشيخ إسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المالكي (ت 1316 هـ) قال في شرحه على العقيدة الصغرى (وأما قوله تعالى في سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فمعناه والله أعلم أنه مستول بقهره وعظمته وسلطانه، وليس المعنى أنه جالس على العرش، لأن هذا من صفات الحوادث وهو محال في حقه تعالى، وبالجملة فكل ما خطر ببالك من صفات الحوادث فالله بخلاف ذلك). اهـ
والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبو زيد الثعالبي المالكي (ت 875 هـ) قال في تفسيره الجواهر الحسان (والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ويبقى استواء القدرة والسلطان). اهـ
والعالم النحوي الأصولي الفقيه المالكي أبو عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 هـ) قال في أماليه (فإنما أتى بـ (على) لـما في الاستواء من معنى الاستعلاء، ألا ترى إلى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله للشاعر (قد استوى بشر على العراق) يريد بذلك علو القهر، بدليل قوله في عقيدته عن الله (وعدم حلوله في المتحيز، وعدم اتحاده بغيره، وعدم حلوله فيه، واستحالة كونه في جهة). اهـ
والمفسر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) قال في تفسيره (وقيل علا دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال استوى بمعنى أنه ارتفع، قال البيهقي ومراده من ذلك – والله أعلم – ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء، وقيل إن المستوى الدخان، وقال ابن عطية وهذا يأباه وصف الكلام، وقيل المعنى استولى، كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق** من غير سيف ودم مهراق، قال ابن عطية وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قلت قد تقدم في قول الفراء عليّ وإليّ بمعنى، وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. اهـ
والشيخ الفقيه الأصولي المفسر شهاب الدين أحمد القَرافي المالكي (ت 684 هـ) قال في كتابه الذخيرة ما نصه (ومعنى قول مالك الاستواء غير مجهول، أن عقولنا دلتنا على الاستواء اللائق بالله وجلاله وعظمته، وهو الاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام). اهـ
والقاضي الفقيه الإمام الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد المالكي قاضي الجماعة بقُرْطُبة المعروف بابن رشد الجد (ت 520 هــ) قال ما نصه (والاستواء في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (سورة الأعراف) معناه استولى قاله الواحدي وقيل معناه القهر والغلبة ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل موافقًا له ومقــرًّا لكلامه.
والمفسر أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 541 هـ) قال في تفسيره وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان. اهـ وقال وقد تقدم القول في كلام الناس في الاستواء، واختصاره أن أبا المعالي رجّح أنه استوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره (اسْتَوَى) في هذا الموضع استولى. اهـ
وقال الإمام أحمد عندما سئل عن الاستواء (استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر).
والثاني مسلك الخلف وهم الذين جاءوا بعد السلف، وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف، فيقولون استوى أي قهر، ومن قال استولى (من غير سبق مغالبة)، فالمعنى واحد أي قهر، ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظًا من التشبيه.
قال الحافظ البيهقي في كتابه الاعتقاد ما نصه (وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا (يعني المتشابه) ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله على قسمين:
منهم من قبله وءامن به ولم يؤوله ووكل علمه إلى الله ونفى الكيفية والتشبيه عنه، ومنهم من قبله وءامن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد، وقد ذكرنا هاتين الطريقتين في كتاب الأسماء والصفات في المسائل التي تكلموا فيها من هذا الباب. اهـ
وقال القاضي الإمام أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) في كتابه الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ما نصه (ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول، والانتقال، ولا القيام، ولا القعود لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ) وقوله (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك، فإن قيل أليس قد قال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قلنا بلى قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار، ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان). اهـ
وقال البيضاوي في تفسيره (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (سورةالأعراف) استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفه لله بلا كيف، والمعنى أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهًا عن الاستقرار والتمكن. اهـ
وقال ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح (وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا) أي أمره لبعض ملائكته، أو ينزل مناديه (تبارك) كثر خيره ورحمته وآثار جماله (وتعالى) عن صفات المخلوقين من الطلوع والنزول وارتفع عن سمات الحدوث بكبريائه وعظمته وجلاله، قيل إنهما جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه، للتنبيه على التنزيه لئلا يتوهم أن المراد بالاسناد ما هو حقيقته (كل ليلة إلى السماء الدنيا) قال ابن حجر أي ينزل أمره ورحمته أو ملائكته وهذا تأويل الإمام مالك وغيره ويدل له الحديث الصحيح أن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا ينادي فيقول هل من داع فيستجاب له، الحديث، والتأويل الثاني ونسب إلى مالك أيضا أنه على سبيل الاستعارة، ومعناه الاقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة كما هو عادة الكرماء لا سيما الملوك إذا نزلوا بقرب محتاجين ملهوفين مستضعفين، قال النووي في شرح مسلم في هذا الحديث وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها، مذهبان مشهوران فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه الله سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها، فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم، يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان، تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته، من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل السلف وفيه تأويل إجمالي أو مع تأويله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيلي ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ الله أن يظن بهم ذلك، وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أولا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره ثم استوى إلى السماء أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق بل قال جمع منهم ومن الخلف أن معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني). اهـ
فالحاصل أن الذي لا يحمل الآيات المتشابهة على ظاهرها بل يقول لها معان لا أعلمها، تليق بالله تعالى غير هذه الظواهر، مثلا استواء الله على العرش له معنى غير الجلوس وغير الاستقرار غير استواء المخلوقين لكن لا أعلمه فهذا سَلِمَ، وهذا هو الغالب على السلف حيث لا يخوضون بتعيين معان لـها وتأويلها مع اعتقاد تنزيه الله عن الجلوس والاستقرار، وكذلك الذي يقول استواء الله على العرش هو قهره للعرش، سَلِمَ من التشبيه.
فالأول هو التأويل الإجمالي أي يقول استوى استواء يليق به من غير أن يفسره بالقهر، والثاني هو التأويل التفصيلي أي يقول استوى معناه قهر، فمن شاء أخذ بذلك ومن شاء أخذ بهذا.
وقال الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه في البرهان المؤيد (وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة لأن ذلك من أصول الكفر). اهـ
أماالوهابية فليسوا على ما كان عليه السلف ولا الخلف، بل هم على مسلك المجسمة المشبهة، لأن الوهابية حملوا الاستواء على الاستقرار ومنهم حمله على الجلوس فوقعوا في تشبيه الله بخلقه، فلا يقال عنهم (السلفيون أو السلفية) وإن سموا أنفسهم بذلك ليخدعوا الناس أنهم على مذهب السلف، وقد علمت أن مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه، والمبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف، فهم كما قال القائل:
وكــل يــدعــي وصــلا بـلـيـلى *** ولــيلـى لا تـُـقِــر لــهـم بــذاكـا