إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

عِنْدَ المَالِكِيَّةِ سَابُّ الرَّسُولِ يُقْتَلُ (1) وَلَو تَشَهَّدَ
 
عِنْدَ المَالِكِيَّةِ إِذَا شَخْصٌ شَتَمَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ يُقْتَلُ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا عِنْدَ الأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ إِذَا أَسْلَمَ فِي جَمِيْعِ حَالَاتِ الكُفْرِ، فَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِ الأَنْدَلُسِ لَمَّا كَانَتْ بِيَدِ المُسْلِمِيْنَ رَجُلٌ قَالَ فَعَلَ اللهُ بِرَسُولِهِ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ كَلَامًا قَبِيْحًا، فَأُحْضِرَ هَذَا الشَّخْصُ لِلْمُرَاجَعَةِ فَقَالَ (أَنَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي رَسُولِ اللهِ العَقْرَبَ، أَلَيْسَ اللهُ يُرْسِلُهُ)، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ القَاضِي هَذَا التَّأْوِيْلَ فَقَتَلَهُ.
 
فقد قال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى السبتي اليحصبي (المتوفى 544 هـ) في الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القسم الرابع في تعرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه عليه الصلاة والسلام الباب الأول في بيان ما هو في حقه صلى الله عليه وسلم سب أو نقص من تعريض أو نص الفصل الأول الحكم الشرعي فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ (2) صَاحِبُ سُحْنُونٍ مَنْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَسْوَدَ (3) يُقْتَلُ.
وَقَالَ فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ لَا وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ فعل الله برسول الله كذا وَكذا وَذَكَرَ كَلَامًا قَبِيحًا، فَقِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَشَدَّ مِنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ الْعَقْرَبَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ لِلَّذِي سَأَلَهُ اشْهَدْ عَلَيْهِ وَأَنَا شَرِيكُكَ (يُرِيدُ فِي قَتْلِهِ وَثَوَابِ ذَلِكَ) قَالَ حَبِيبُ بْنُ الرَّبِيعِ (4) لِأَنَّ ادِّعَاءَهُ التَّأْوِيلِ فِي لَفْظٍ صُرَاحٍ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ امْتِهَانٌ وَهُوَ غَيْرُ مُعَزِّزٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُوَقِّرٍ لَهُ فَوَجَبَ إِبَاحَةُ دَمِهِ.
وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْأَنْدَلُسِ بِقَتْلِ ابْنِ حَاتِمٍ الْمُتَفَقِّهِ الطُّلَيْطِلِيِّ وَصَلْبِهِ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ مِنَ اسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ وَخَتَنِ حيدرة وَزَعْمِهِ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ أَكَلَهَا إِلَى أَشْبَاهٍ لِهَذَا.
وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ وَأَصْحَابُ سُحْنُونٍ بِقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ الفزاري، وَكَانَ شَاعِرًا مُتَفَنِّنًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ طَالِبٍ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَرُفِعَتْ عَلَيْهِ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْضَرَ لَهُ الْقَاضِي يَحْيَى بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَطُعِنَ بِالسِّكِّينِ وَصُلِبَ مُنَكَّسًا، ثُمَّ أُنْزِلَ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، وَحَكَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَتْ خَشَبَتُهُ وَزَالَتْ عَنْهَا الْأَيْدِي اسْتَدَارَتْ وَحَوَّلَتْهُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَكَانَ آيَةً لِلْجَمِيعِ وَكَبَّرَ النَّاسُ…).
 
وقال القاضي رحمه الله (قَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ سَبٌّ وَأَذًى فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرْنَا إِجْمَاعَ العلماء على قتل فاعل ذلك وقائله أوتخيير الْإِمَامِ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَرَّرْنَا الْحُجَجَ عَلَيْهِ)
وَبَعْدُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ قَتْلُهُ حَدًّا لَا كُفْرًا إِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْهُ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُمْ تَوْبَتُهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ اسْتِقَالَتُهُ وَلَا فَيْأَتُهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ وَمُسِرِّ الْكُفْرِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى هَذَا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله، أَوْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ حد وجب لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبو الحَسَن الْقَابِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّبِّ وَتَابَ مِنْهُ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ قُتِلَ بِالسَّبِّ لِأَنَّهُ هُوَ حَدُّهُ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي مِثْلِهِ وَأَمَّا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَتَوْبَتُهُ تَنْفَعُهُ.
وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ثُمَّ تَابَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ تُزِلْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ الْقَتْلَ، وَكَذَلِكَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي الزِّنْدِيقِ إِذَا جَاءَ تَائِبًا فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ).
 
وقال القاضي رحمه الله (القسم الرابع في تعرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه عليه الصلاة والسلام الباب الثالث في حكم من سب الله تعالى وملائكته وأنبياء وكتبه وآل النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وصحبه الفصل السابع حكم من تعرض بساقط قوله وسخيف لفظه لجلال ربه دون قصد) (وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ حَبِيبٍ وَأَصْبَغُ بْنُ خَلِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عَجَبٍ وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ بَدَأَ الْخَرَّازُ يَرُشُّ جُلُودَهُ…(5)…فَقَالَ ابن حبيب دمه في عُنُقِى أَيُشْتَمُ رَبٌّ عَبَدْنَاهُ ثُمَّ لَا نَنْتَصِرُ لَهُ إنا إذا لعبيد سوء ما نَحْنُ لَهُ بِعَابِدِينَ وَبَكَى، وَرُفِعَ الْمَجْلِسُ إِلَى الْأَمِيرِ بِهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ ……فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ وَصَاحِبِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ).
 
(1) يقتله الإِمَام أَي الخليفَة أَو مَن يَقومُ مَقامَهُ.
(2) أحمد بن أبي سليمان واسم أبيه داود ويعرف بالصواف يكنى بأبي جعفر من الطبقة الثالثة من إفريقية من مقدمي رجال سحنون، سمع من الكبار وسمع منه الأعيان…وكان حافظاً للفقه مقدماً فيه مع ورع في دينه أحد كبار المالكية ووجوههم وذكره أبو العرب وأثنى عليه ثناء طويلاً، صحب سحنون عشرين سنة…توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين ومائتين ومولده سنة ست وقيل ثمان ومائتين (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب).
 
(3) قالَ بَعْضُ المَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الحَنَفِيَّةِ وبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَن قَالَ إنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا أَسْوَدُ فإنَّهُ يَكْفُرُ وهذَا يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ الوَصْفَ بالسَّوَادِ تَنْقِيصٌ أمَّا مَن كَانَ لا يَفْهَمُ مِنْهُ التَّنْقِيصَ وَكَانَ يَظُنُّ أنَّ لَوْنَهُ كَذَلِكَ لا يَكْفُرُ.
(4) أحد كبار المالكية المتوسطين بين المتقدمين منهم والمتأخرين وهو من أصحاب الوجوه الذين يستخرجون الأحكام بالاستنباط من نصوص الامام مالك رضي الله عنه.
(5) لم يقبَلْ علماءُ الأندلُسِ الكبارُ أن يُؤَوِّلوا كلامَ ابنِ أخِ عُجْبٍ جَاريةِ أميرِ الأندَلُسِ حينَ قالَ عندَ نزولِ المطرِ بدأ الخـرَّازُ يرُشُّ جُلودَهُ يرُيدُ اللهَ تباركَ وتعالى والخـرَّازُ هوَ الإِسكافُ فجمعَ الأميرُ العلماءَ للنّظَرِ فى حالهِ فقالَ عبدُ الملكِ بنُ حَبيبٍ مِن بَينهم رَبٌّ عَبدناهُ ثم يشتَمُ فلا ننتصِرُ لهُ إنّا إذًا لعبيدُ سوءٍ دمُهُ فى عُنُقِى فأمرَ الأميرُ بقَتلهِ فقُتِلَ.