إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وآلِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ والصالحينَ.
 
قال الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيروانيّ المالكي في رسالته (وأولى العلوم وأفضلها وأقربها إلى الله، علم دينه وشرائعه مما أمر به ونهى عنه ودعا إليه وحض عليه في كتابه وعلى لسان نبيه، والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعايته والعمل به والعلم أفضل الأعمال وأقرب العلماء إلى الله تعالى وأولاهم به أكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة، والعلم دليل إلى الخيرات وقائد إليها، واللجأ إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه واتباع سبيل المؤمنين، وخير القرون من خير أمة أخرجت للناس نجاة، ففي المفزع إلى ذلك العصمة، وفي اتباع السلف الصالح النجاة وهم القدوة في تأويل ما تأولوه واستخراج ما استنبطوه، وإذااختلفوا في الفروع والحوادث لم يخرج عن جماعتهم).
 
ويقول الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيروانيّ المالكي (رحمه الله المتوفى 386 هـ) في رسالته (وَأَنَّه فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ) هذه الجملة مما انتُقِد على المصنف رحمه الله، فإنّ أحدًا من صالِحِ السلف ولا من محققي الخلف لم يثبت عنه أنه أضاف كلمة (بذاته) عند قوله عن الله (استوى على العرش)، ثم الموافق للآية هو لفظ (على العرش) وليس (فوق العرش) مع أنّ الإشكال الذي لا يُتسَامح فيه هو تعبيره بلفظة (بذاته) مع حَمْل كلمة فوق على فوقيّة القهر لا الجهة كما في نحو قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) (سورة النحل) والتي قال أبو القاسم القشيريّ وتاج القرّاء الكرمانيّ في معناها (يخافون الله أن ينزّل عليهم عذابًا من فوق رءوسهم)، وقال أبو محمد عبد الحق ابن عطيّة الفقيه العالم بالتفسير والأحكام والحديث في تفسيرها وقوله (من فوقهم) يَحتمل معنيين أحدهما الفوقيّة الّتي يوصف بها الله تعالى فهي فوقيّة القدر والعظمة والقهر والسّلطان، والآخر أن يتعلّق قوله (من فوقهم) أي بقوله (يَخَافُونَ) يخافون عذابَ ربهم مِن فوقهم، وذلك أنّ عادة عذاب الأمم إنّما أتَى من جهة فوقٍ.
 
وأمّا الاعتراض على أبي محمد رحمه في قوله عن الله (فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ) فذلك بشأن لفظتين:
الأولى تعبيره بـ (فَوْقَ عَرْشِهِ) وما فيه مِن عُدُولٍ عن لفظ النصّ القرآني (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) (سورة طه).
 
قال القاضي الفقيه عبد الوهّاب في شرحه ما نصُّه (هذه العبارة الآخرة التي هي قوله على العرش (استوى) أحبُّ إلَيَّ من الأولى التي هي قوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) لأنّ قوله (على عرشه) هو الذي ورد به النصّ ولم يرد النصّ بذِكر (فوق (1)) وإن كان المعنى واحدًا، وكان المراد بذِكر الفوق في هذا الموضع أنه بمعنى (علَى) إلَّا أنَّ ما طابَق النصَّ أولَى بأن يُستَعمل). اهـ
 
وقال الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد المنوفي الشاذليّ في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (وأحسن ما قيل في دفع الإشكال إن الكلام يتضح ببيان معنى الفوقية والعرش والمجيد والذات، فالفوقية عبارة عن كون الشىء أعلى من غيره وهي حقيقة في الأجرام كقولنا زيد فوق السطح مجاز في المعاني كقولنا السيد فوق عبده، وفوقية الله تعالى على عرشه فوقية معنوية بمعنى الشرف وهي بمعنى الحكم والملك، فترجع إلى معنى القهر والعرش اسم لكل ما علا، والمراد به هنا مخلوق عظيم) إلى أن قال (المعنى أن هذه الفوقية المعنوية له تعالى بالذات لا بالغير من كثرة أموال وفخامة أجناد وغير ذلك). اهـ
 
وقال أبو الحسن العَدَويّ في حاشيته على كفاية الطالب ما نصُّه (وأما قوله (فوق عرشه المجيد) فلم يؤخذ عليه فيه أي لأنه ورد الشرع بإطلاق الفوقية كقوله (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) (سورة النحل).
 
وقال الشيخ صالح الآبي الأزهري في كتابه الثمر الداني ما نصّه (فوق عرشه أي فوقية سلطنة وقهر، قال تعالى (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)) (سورة الأعراف). اهـ
 
وقال ابن ناجي التنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (فأما لفظ الفوقية فمشترك بين الحس والمعنى والقرينة تخصص المراد منهما)، ثم قال (فإذا تقرر هذا فحَمْلُ الفوق على الحِسّ معلوم الاستحالة بالدليل اليقيني لتقدسه سبحانه عن الجواهر والأجسام، ومعلوم ذلك من سياق كلام المؤلف رحمه الله بحيث لا يوهم أنه أراد الحِسّ، فهو تعالى فوق العرش فوقيَّة معنًى وجلالٍ وعَظَمة). اهـ
 
وقال الشيخ أحمد زرُّوق الفاسي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (يريد فوقيّةً معنويةً، كما يقال السلطان فوق الوزير والمالك فوق المملوك والشريف فوق الدنيء لا أنها حسية، كالسماء فوق الأرض وما في معناه، لانتفاء الجهة في حَقِّه تعالى لما يلزم عليها من النقص والحدوث)، ثم قال (وكأنّه يقول هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلولُ والاستقرار). اهـ
 
وقال الشيخ محمد بن قاسم جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (2) (وفوقيته تعالى على عرشه فوقية استيلاء وقهر وغلبة، يقولون السيّد فوق عبده والمالك فوق المملوك والخالق (وَهُوَ اللهُ) فوق المخلوق، فهي راجعة إلى معنى القهر)، ثم قال (وقد عُلِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقِّ الله، وأنّ (فوق) لها معنًى صحيحٌ ورد بها السمع، ولم يَرِد السمع بهذا اللفظ في هذا التركيب الموهِم). اهـ
 
الثانية قوله (بذاته):
قال الشهاب النفراويّ الأزهريّ في الفواكه الدواني ما نصّه (قال في التحقيق أُخِذ على المصنف في قوله بذاته، وقيل هي دسيسة عليه، فإن صح هذا فلا إشكال في سقوط الاعتراض عنه، ولا عليه، لأنه لم يرد بها سمع). اهـ
 
وقال ابن ناجي التَنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وهذا مما انتقد على الشيخ رحمه الله في قوله بذاته فإنها زيادة على النص فمن مخطئ ومن معتذر، قال الفاكهاني وسمعت شيخنا أبا علي البجائي يقول إن هذه لفظة دست على المؤلف رضي الله عنه فإن صح هذا فلا اعتراض على الشيخ). اهـ
 
وقد قال الحافظ ابن الفخّار القرطبي في رسالته التّبصرة في نقد رسالة ابن أبي زيدٍ القيرواني ما نصّه (وموضع الغلط في هذا الكلام عدوله عن ظاهر نصّ القرآن لأنه تعالى قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) (سورة طه). اهـ
 
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (أخذ عليه في قوله (بذاته) لأنّ هذه اللفظة لم يرد بها السمع). اهـ
 
وقال القلشاني في تحرير المقالة في شرح الرسالة ما نصّه (في عبارته رضي الله عنه في هذا المكان قلق، وقد استشكلت قديمًا وحديثًا). اهـ
 
وقال الشيخ محمد جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وقوله (بذاته) هو محل للانتقاد على المؤلف، لأنه لفظ يوهم كون الفوقية فوقية استقرار، وقد علِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقه الله). اهـ
 
وقد ترك الشيخ عبد الله بن أحمد الحاج (توفّي 1209 هـ) ناظم رسالة ابن أبي زيد لفظة (بذاته) وأبدلها بلفظة (بعِلْمِه) فقال:
 
وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ *** بِعِلْمِهِ جَلَّ عَنِ التَّقْيِيدِ
 
حتّى إنّ الذّهبيّ المجسّم على شذوذه وانحرافه عن عقيدة أهل السنّة والجماعة اعترض هنا على الشيخ أبي محمّد لاستعماله لفظة (بذاته) في الرسالة، فقال الذهبيّ في كتابه المسمّى العُلُوّ للعَلِيّ الغَفّار ما نصُّه (وَقد نَقَموا عليه (أي أبي محمَّد القيرواني) في قوله (بذاته)، فَلَيْتَهُ تركها). اهـ
 
وقد اعترض هذا الذّهبيّ أيضًا على ابن الزاغونيّ المجسِّم من الحنابلة لاستعماله تلك اللفظة في قصيدة له، فقال في سير أعلام النبلاء ما نصُّه (قد ذكرنا أن لفظة (بذاته) لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، وتركها أولى). اهـ
 
وقد تمسك بعض المشبهّة بظاهر لفظة أبي محمد القيروانيّ في الرسالة لإثباتهم الجهة والحيّز لله تعالى، وقد رَدّ دعواهم الشيخُ الإمامُ عبد الله بن أبي جمرة رضي الله عنه في كتابه بهجة النفوس بشرح مختصره على صحيح البخاريّ فقال ما نصُّه (وأما ما احتَجُّوا به (يعني المجسّمةَ) لمذهبهم الفاسد بقول ابن أبي زيد رحمه الله في العقيدة التي ابتدأ الرسالة بها بقوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) فلا حجة لهم فيه أيضًا لأنهم خفضوا المجيد وجعلوه صفة للعرش، وافتروا على الإمام بذلك، والوجه فيه رفع المجيد لأنه قد تم الكلام بقوله فوق عرشه، والمجيد بذاته كلام مستأنف). اهـ
وهذا ما ذهب إليه بعض شُرَّاح الرسالة في تأويل تلك اللفظة مِن الشيخ أبي محمد، وهذا على فرض ثبوتها عنه، وأقول لا حاجة إلى ذلك لأنّنا نظنّ أنها دسيسة عليه كما سبق فيما نقلنا وما ذِكر الإمامِ ابن أبي جمرة رضي الله عنه لمقولتهم إلا مبالغة في التشنيع عليهم لإسكاتهم وتبكيتهم.
 
قال العلامة محمد الشاذلي النيفر التونسي في كتاب مسامرات الظريف ج 1 ص 358 (وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ (ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته) وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسها، فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بحيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانياً، لا بالجر على أنه نعت للعرش، قال وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظراً، وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء). انتهى
 
ويقول الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيروانيّ المالكي (رحمه الله المتوفى 386 هـ) في رسالته (وهو في كلّ مكان بعلمه)، أخذ بعض الشراح على أبي محمّد رحمه الله في هذا التعبير، وتسامح فيه بعضهم، ولم يتعرّض له ءاخرون، وأمّا أخذهم عليه فهو لأنّ اللفظ يوافق مذهب المعتزلة، كما ذكر الشيخ زرّوق في شرحه، ونصّ كلامه وقالت المعتزلة هو في كلّ مكان بالعلم لا بالذّات وظاهر كلام الشّيخ ينحو عليه، وذكر أنّ بعض الشرّاح قالوا إنّما يقال علمُهٌ مُحيطٌ بكلّ شيء، وقد نقل الشيخ أبو الحسن المنوفيّ في شرحه وجه الانتقاد على الشّيخ وأجاب بما أورد على المنتقدين فقال ما نصّه أخذ عليه أيضا في استعمال اللفظ من وجهين أحدهما أنه يفهم منه أن علمه متجزّئ مفارق لذاته، وليس كذلك بل هو صفة قديمة لا تفارق الذات، أجيب بأنّه أراد أنّ علمه محيط بجميع الكائنات في أماكنها وأراد أن يبيّن قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (سوة المجادلة 7) الآية أي علمه محيط بجميع الأمكنة. انتهى
 
وقد نقل الشيخ العدويّ في تتميم كلام المنوفيّ ما نصّه (المراد أنّ علمه تعالى متعلّق بجميع الكائنات في مكانها أي حالة كونها كائنة في مكانها أي فهي مكشوفة له غير خافية عليه، وحاصل معنى المصنّف أنّ الله يعلم ما حل في كلّ مكان بعلمه). انتهى
 
وقد ذهب بعض الشرّاح إلى نصرة أبي محمّد رحمه الله وتبرئته من طاعن يطعن فيه ويرميه بالتّجسيم فقالوا في هذه العبارة (وهو في كلّ مكان بعلمه) نفيٌ لما يُتوهّم في الّتي قبلها (فوق عرشه المجيدِ بذاتهِ) لأنّ الواحد بالذّات لا يتعدّد مكانه بل هو تعالى منزّه عن المكان، وكأنّه يقول هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلول والاستقرار، ذكر ذلك الشيخ زَرُّوق في شرحه على الرسالة.
 
وقد جاءت المعيّة في القرءان الكريم في مواضع كثيرة وحملت على معانٍ عديدة، فمن ذلك قوله تعالى (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (سورة محمّد 35)، فقد قال النّسفيّ في تفسيره معكم بالنّصرة أي ناصركم.
 
وقولُه أيضا (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (سورة التّوبة 40)، فقد قال الخازن في تفسيره بالنُّصرة والمَعُونة.
 
وأمَا تفسير الآية الّتي سبقت (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (سوة المجادلة 7) فقد قال ابن جرير الطّبريّ والنّسفيّ وغيرهما (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ) أي من التّناجي (ثَلَاثَةٍ) من خَلقه (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أي الله يسمع سرّهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيءٌ من إسرارهم، (ولا) يكون نجوى (خَمْسَةٍ) من خلقه (إلاّ هُو سَادسُهُم) أي يسمعُ سرّهم ونجواهم كذلك، (ولا) يتناحى (أَدْنَىٰ) أي أقلّ (مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) من ذلك من خَلقه (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) أي يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه، فهو تعالى منزّهٌ عن المكان.
 
وقد شذّ ابنُ تيمية شيخ المجسّمة في تفسير معنى المعيّة الواردة في متشابِه الآيات، فقال في مجموع فتاويه عند شرحه حديثَ عمرانَ بن حُصَين ما نصّه (وإن قُدِّر أنّ نوعها لم يَزَل معه فهذه المَعيَّة لم ينفها شرع ولا عقل بل هي من كماله، قال تعالى (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (سورة النّحل 17) والخَلق لا يزَالونَ مَعَه)) انتهى، فأثبت ابن تيمية بذلك أزليّة العالم وذلك كفر بإجماع الأمة كما نصّ عليه الزَّركَشيُّ في تشنيف المسامع فقال (وقد ضَلَّلَهُم المسلمون في ذلك وكفروهم، وقالوا من زعم أنّه (أي العَالَمَ) قديمٌ فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله تعالى، قالوا وهذا أخبث مِن قول النصارى لأنّ النصارى أخرجوا من عموم خَلْقِهِ شخصاً واحداً أو شخصين، ومَن قال بِقدَم العالم فقد أخرج العالم العُلْوِيّ والسُفلِي والملائكةَ عن كونه مخلوقاً لله تعالى. انتهى
 
وما يُذكَر في كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستانيّ فيما روي عن عبد الله بن نافع أنه قال قال مالك (الله في السّماء وعلمه في كلّ مكان لا يخلو من علمه مكان) فهذا التعبير لا يصحّ إثباته عن مالك لأنّه انفرد بروايته عبد الله بن نافع ولم يُتابَع عليه، وهذا ابن نافع متكلم في حفظه، وبذلك ذكره النووي في تهذيب الأسماء نقلاً عن الإمام أحمد والبخاريّ في حاله، وأورده ابن عَدِيّ في الكامل في الضعفاء وأثبت تضعيف أحمد والبخاريّ له، وتعرّض له ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب وذكر أنّ ابن نافع هذا دخله في بعض كلام مالك شكّ بسبب شيء في حفظه.
 
فما يرويه عبد بن نافع عن مالك أنه كان يقول (الله في السماء وعلمه في كل مكان) لا يثبت، كيف لا، وقد قال الإمام أحمد عبد الله بن نافع الصايغ، لم يكن صاحب حديث، وكان ضعيفا، ومثله قال البخاريّ فيه، وقال ابن عَدِيّ فيه يروى غرائب عن مالك، وقال ابن فَرحون فيه كان أصمَّ أميّا لايكتب، فكيف يُنسَب بمثل هذا السند إلى مثل مالك مثلُ هذا، وقد شهِرَ عنه رضي الله عنه مذهب التفويض كما كان عليه أكثر أهل المدينة على ما ذكره اللاّلِكائي في شرح السنة.
 
(1) أي في الكلام على العرش، وإلا فقد جاء في القرآن (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) (سورة النحل) معناه يخافون عذابه أن يأتيهم من فوقهم.
(2) طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق الباحثة إحسان النقوطي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية 1429 هـ – 2008 م.
 
ابن أبي زيد القيرواني من أعلام المذهب المالكي (توفي سنة 386 هـ) الإمام العلامة القدوة الفقيه عالم أهل المغرب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي ويقال له مالك الصغير وكان أحد من برز في العلم والعمل.
قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدين والدنيا ورحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه وكثر الآخذون عنه وهو الذي لخص المذهب وملأ البلاد من تواليفه، تفقه بفقهاء القيروان وعول على أبي بكر بن اللباد وأخذ عن محمد بن مسرور الحجام والعسال وحج فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي ومحمد بن الفتح والحسن بن نصر السوسي ودراس بن إسماعيل وغيرهم.
 
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.