إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه فيأتي بمعنى
 
1- التمكن والاستقرار:
ومنه قوله تعالى (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (سورة هود) أي أن سفينة نوح عليه السلام استقرت على جبل الجودي، ويقال استوى الرجل على ظهر دابته أي استقر عليها، قاله اللغويون وغيرهم.
 
2- الاستقامة والاعتدال:
ومنه قوله تعالى (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (سورة الفتح) أي الزرع، والمراد بالاستواء في هذه الآية الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، قال المفسر أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج 8 – 103) ما نصه (فاستوى أي تم نباته على سوقه جمع ساق كناية عن أصوله) وقال البيضاوي في تفسيره أنوار التنـزيل (م 2 – ج 5 – ص 86) ما نصه (فاستقام على قصبه جمع ساق) ومثله قال النسفي في تفسيره (ج 4 – 164) وقال القرطبي في تفسيره (ج 16 – 295) (فاستوى على سوقه على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له) وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس (ج 10 – 188) ممزوجا بالمتن (واستوى اعتدل) في ذاته، ومنه قوله تعالى (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (سورة الفتح) ويقال استوى الشئ اعتدل (لسان العرب ج 14 – 414).
 
3- التمام:
ومنه قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) أي تمت قوته الجسدية، ففي القاموس (ص 1673) (واستوى الرجل بلغ أشده) قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس (ج 10 – 189) (فعلى هذا قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) وفي مختار الصحاح ما نصه (ص 136) (واستوى الرجل انتهى شبابه) وكذا في لسان العرب (ج 14 – 414) وفيه أيضا ما نصه (ج 14 – 414) (قال الفراء الاستواء في كلام العرب على وجهين أحدهما أن يستوى الرجل وينتهي شبابه وقوته….) وقال اللغوي الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز (ج 2 – 106) ما نصه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (سورة القصص) قوي واشتد.
 
4- الاستيلاء أي القهر:
يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا احتوى على مقاليد الملك واستولى عليها وحازها، وسيأتي مزيد تفصيل إن شاء الله تعالى في مقال آخر، وقال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ص 113 ما نصه (واستوى على سرير الملك كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه).
 
5- النضج:
وقال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ما نصه (ص 113) استوى الطعام أي نضج.
 
6- القصد أو الإقبال:
قال اللغوي الفيومي في المصباح المنير ما نصه (ص 113) واستوى إلى العراق قصد، وقال ابن منظور في لسان العرب (ج 14 – 414) (تقول قد بلغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا معناه قصد بالاستواء إليه) ثم قال (قال الفراء تقول كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ وإليَّ يشاتمني على معنى أقبل إليَّ وعليَّ).
 
7- التماثل والتساوي:
وفي المصباح المنير ما نصه (ص 113) (استوى القوم في المال إذا لم يفضل منهم أحد على غيره وتساووا فيه وهم فيه سواء) وفي لسان العرب ما نصه (ج 14 – 410) (استوى الشيئان وتساويا تماثلا). اهـ
 
8- الجلوس:
يقال استوى على السرير إذا جلس عليه.
 
9- العلو:
قال ابن منظور في لسان العرب ما نصه (ج 14 – 410) (قال الأخفش استوى أي علا، تقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) والاستواء بمعنى العلو قد يكون بالرتبة وقد يكون بالمكان وهذا مستحيل على الله كما سيمر معنا في مقالات أخرى، وقال اللغوي الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز (ج 2 – 106) عند تعداد معنى الاستواء ما نصه (بمعنى الركوب والاستعلاء (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ) (سورة الزخرف) أي ركبتم واستعليتم).
 
وللاستواء غير ذلك من المعاني، فمن أراد التوسع فليطلبها في معاجم اللغة.
 
ومن علمائنا المالكية من تأول الاستواء على العرش بالقهر والاستيلاء الشيخ برهان الدين إبراهيم اللقاني المالكي (ت 1041 هـ) في شرحه على منظومته جوهرة التوحيد والشيخ أحمد بن غنيم النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني قال ما نصه (استوى أي استولى بالقهر والغلبة استيلاء ملك قاهر وإله قادر، ويلزم من استيلائه تعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه). اهـ
والشيخ محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المالكي (ت 1227 هـ) في شرحه على توحيد العالم الماهر سيّدي عبد الواحد بن عاشر مفسرًا الاستواء على العرش بالقهر والغلبة، كقوله (فلما علونا واستوينا عليهم *** جعلناهم مرعى لنسر وطائر) وقوله (قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مــهــراق) وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن استولى على أعظمها كان استيلاؤه على غيره أحرى). اهـ
والشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنوفي المالكي المصري (ت 939 هـ) قال في كتابه كفاية الطالب ما نصه (فمعنى استوائه على عرشه أن الله تعالى استولى عليه استيلاء ملك قادر قاهر، ومن استولى على أعظم الأشياء كان ما دونه في ضمنه ومنطويًا تحته، وقيل الاستواء بمعنى العلو أي علو مرتبه ومكانة لا علو المكان). اهـ.
والشيخ إسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المالكي (ت 1316 هـ) قال في شرحه على العقيدة الصغرى (وأما قوله تعالى في سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فمعناه والله أعلم أنه مستول بقهره وعظمته وسلطانه، وليس المعنى أنه جالس على العرش، لأن هذا من صفات الحوادث وهو محال في حقه تعالى، وبالجملة فكل ما خطر ببالك من صفات الحوادث فالله بخلاف ذلك). اهـ
والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبو زيد الثعالبي المالكي (ت 875 هـ) قال في تفسيره الجواهر الحسان (والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ويبقى استواء القدرة والسلطان). اهـ
والعالم النحوي الأصولي الفقيه المالكي أبو عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 هـ) قال في أماليه (فإنما أتى بـ (على) لـما في الاستواء من معنى الاستعلاء، ألا ترى إلى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله للشاعر (قد استوى بشر على العراق) يريد بذلك علو القهر، بدليل قوله في عقيدته عن الله (وعدم حلوله في المتحيز، وعدم اتحاده بغيره، وعدم حلوله فيه، واستحالة كونه في جهة). اهـ
والمفسر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) قال في تفسيره (وقيل علا دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال استوى بمعنى أنه ارتفع، قال البيهقي ومراده من ذلك – والله أعلم – ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء، وقيل إن المستوى الدخان، وقال ابن عطية وهذا يأباه وصف الكلام، وقيل المعنى استولى، كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق** من غير سيف ودم مهراق، قال ابن عطية وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قلت قد تقدم في قول الفراء عليّ وإليّ بمعنى، وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. اهـ
والشيخ الفقيه الأصولي المفسر شهاب الدين أحمد القَرافي المالكي (ت 684 هـ) قال في كتابه الذخيرة ما نصه (ومعنى قول مالك الاستواء غير مجهول، أن عقولنا دلتنا على الاستواء اللائق بالله وجلاله وعظمته، وهو الاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام). اهـ
والقاضي الفقيه الإمام الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد المالكي قاضي الجماعة بقُرْطُبة المعروف بابن رشد الجد (ت 520 هــ) قال ما نصه (والاستواء في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (سورة الأعراف) معناه استولى قاله الواحدي وقيل معناه القهر والغلبة. اهــ ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل موافقًا له ومقــرًّا لكلامه.
والمفسر أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 541 هـ) قال في تفسيره وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان. اهـ وقال وقد تقدم القول في كلام الناس في الاستواء، واختصاره أن أبا المعالي رجّح أنه استوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره (اسْتَوَى) في هذا الموضع استولى. اهـ