إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمد لله ربّ العالمين صلواتُ الله البرّ الرّحيم والملائكةِ المقربّين على سيّدنا محمّدٍ أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانِه الأنبياء والمرسلين وسلامُ الله علَيهم أجمعين، أمّا بعدُ، فقد ورد بالإسنادِ الصّحيح المتّصل في صحيح مُسلم مِن حديثِ عُقَيل بنِ يَعمُر عن يحيى بن يَعمُر عن أبي الأسود الدُّؤليّ قال قال لي عِمران بنُ الحُصَين رضي الله عنه (أرأَيتَ ما يَعملُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أَشَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومَضَى علَيهِم مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَق أو فِيما يُستَقبَلُون بهِ مما أتَاهُم به نَبيُّهم وثبتَتِ الحُجَّةُ علَيهم، قال فقُلتُ بل شَىءٌ قُضِيَ علَيهم، قال أفَلا يكونُ ظُلمًا، قال ففَزعتُ مِن ذلكَ فَزعًا شَديدًا وقُلتُ كلُّ شَىءٍ خَلْقُهُ ومِلْكُ يَدِه لا يُسألُ عما يَفعل وهم يُسأَلون، قال يَرحمُكَ الله إني لم أُردْ بما سأَلتُكَ إلا لأحْزِرَ عَقلَك، إنّ رجُلَينِ مِن مُزَينةَ أتَيا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم فقالا يا رسولَ الله أرأَيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أشَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومضَى علَيهم مِن قدَرٍ قَد سَبَق أو فِيما يُستَقبَلُون به مما أتاهُم به نبِيُّهم وثبَتَتِ الحُجّةُ علَيهم، قال بل شَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومَضَى علَيهم ومِصْداقُ ذلكَ قَولُ الله تبارك وتعالى (ونَفسٍ وما سَوّاها فأَلهَمَها فجُورَها وتَقواها)).
هذا الحديثُ أخرجَه الإمام مسلم في صحيحه وأخرجه البيهقي في كتاب القدَر وغيرهما، أمّا عِمران بنُ الحصين فهو أحَدُ فُقَهاء الصحابة وأحدُ أولياءِ الصّحابة مِن أهلِ الكرَامات، كانَ تَزورُه الملائكةُ ثم استَعمَل الكَيَّ مِن أجْلِ البواسِير فانقَطعَت عنه الملائكةُ، ثم بَعدَ بُرهَةٍ عَادُوا لزِيارتِه، هذا عِمرانُ بن الحصين رضي الله عنه سأَل أبا الأسود الدُّؤلي وهذا أبو الأسود الدُّؤلي معروف مِن ثِقاتِ التّابعِين أخَذَ الحديثَ عن سيّدنا عليّ وغيرِه مِن عِدّةٍ مِن أصحاب رسول الله، وكانَ هوَ أوّلَ واضعٍ للنّحْو بإشارةِ سيّدِنا عليّ، سألَه عِمران رضي الله عنه عن هذا الأمر قالَ لهُ أرأَيتَ ما يَعمَلُ الناس اليومَ ويَكدَحُون فيه (أي يَسعَون إليه)، أي أعمالهم هذه أي حركاتهم وسَكنَاتهُم أشَىءٌ قُضِي عليهم ومضَى عليهم، قال هل هو شىءٌ قَدّره الله تعالى أنه سيَحصل منهم أي باختيارهِم ومشيئَتِهم الحادثة بعدَ مَشيئةِ الله الأزليةِ وعلمِه الأزلي الأبدي (أو فيما يُستَقبلُون به) أم شىءٌ جَديدٌ لم يَسبِق بهِ قدَر (مما أتَاهُم به نبيُّهم وثبَتَت الحُجّةُ علَيهم) فأجابَ أبو الأسود عمرانَ بنَ الحُصَين بقوله بل شىءٌ قُضِيَ عليهم ومضَى عليهم المعنى أنّ كلَّ ما يعمَل العباد مِن حَركات وسكُون حتى النّوايا والقُصُود أي قَصْد النّفْس إلى فعلِ شَىء، أجابَه بأنّ ذلكَ كلَّه على حسَب مشيئة الله الأزلية السّابقةِ وعِلمِه السّابقِ وتقديرِه السّابِق، ثم أَورَدَ عليه هذا الكلامَ قال أفَلا يكونُ ظُلمًا.
المعنى إنْ كانَ هو قَدَّر بعِلمِه ومشيئتِه أن يَعمَلوا هذه الأعمالَ ثم رتّبَ على ذلكَ جَزاءً لهم، الحسَناتِ بالثواب والسّيئات بالعقاب ألا يكونَ ذلكَ ظُلمًا، قال ففَزعتُ فَزعًا شَديدًا وقُلتُ كلُّ شىءٍ خَلقُه ومِلك يدِه لا يسالُ عما يَفعل وهم يسألون، فلَمّا وُفّق للجَواب الصحيح الذي هو أراد عِمران بنُ الحصين أن يَظهَر منه قالَ له يَرحمُك الله إني لم أُردْ بما سَألتُك إلا لأحزِرَ عَقلَك، أي أردتُ أن أمتَحِنَ فَهمَك للدّين، دعا لهُ وصَوَّب جَوابَه، ثم حَدّثَه حديثَ رسول الله قال لهُ إنّ رجُلَين مِن مُزَينَة أتَيا رسولَ الله فقالا أرأَيتَ يا رسولَ الله ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أشَىءٌ قُضيَ علَيهِم ومضَى عليهم مِن قَدرٍ قَد سبَق أو فيما يُستَقبَلُون به مما أتاهُم به نبيُّهم وثبتَت الحُجّة علَيهم قال أي رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم (بل شىءٌ قُضِي علَيهم ومضى عليهم) ومِصداقُ ذلك قولُ الله تبارك وتعالى (ونَفسٍ وما سوّاها فألهمَها فجُورَها وتَقواها)، رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم استَدلّ بهذه الآية، أيّدَ جوابَه لهما بهذه الآية، (ونفسٍ وما سَوّاها فألهمَها فجُورَها وتَقواها)، اللهُ تبارك وتعالى أَقسَم بالنّفس وما سوّاها على أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي يُلهِمُ النّفوسَ فجُورَها وتَقواها أي أنّه لا يكونُ شَىءٌ مِن أعمال العباد خَيرِها وشرّها إلا بخلقِ الله تبارك وتعالى فيهِم ذلكَ، أي العَمل الحسَن وهذا السّيءَ هو يخلقُ فيهم لا يكونُ شىءٌ منهُم إلا بخلق الله تعالى فيهم ذلك، العبادُ ليس لهم في ذلكَ خَلقُ شىءٍ مِن ذلك مِن حيثُ الخلقُ هذا يُنسَب إلى الله أمّا مِن حيثُ الكَسبُ فيُنسَب إلى العبد، قال الله تعالى (لها ما كسَبَت وعليها ما اكتَسبَت) ما كسَبت أي مِن أعمالِ الخير وعلَيها ما اكتَسبت أي مِن عمَل الشّرّ والمعاصي، المعنى أنّ العبادَ يُثَابُون على كسبِهم للحَسنات ويُعاقَبون على كَسبهم للسيئات فالعبادُ لا يخلقون شيئًا مِن أعمالهم.
الله تعالى هو الخالقُ أي هو الذي يُحدِثُ حركاتهِم وسَكناتهم مِن العدَم إلى الوجُود كذلك نِيّاتهم وقُصودُهم وإدراكاتهُم الله تعالى هو الذي يخلُق فيهم ليسَ لهم في ذلك مِن خَلقٍ أي إحداثٍ مِن العدَم إلى الوجود، الله تبارك وتعالى قال (هَل مِن خَالق غيرُ الله) الخَلقُ إذا أُريدَ به الإحداث، الإبرازُ مِن العدَم لا يُضافُ إلا إلى الله، خاصٌّ بالله تبارك وتعالى أمّا إذا أُريد بالخلق التّصويرُ فهو يصِحّ إضَافتُه إلى المخلوق قال تعالى مخاطبًا لعِيسى (وإذْ تخلُق) أي يا عيسى (مِنَ الطّين كهيئة الطّير) هذا خَلقٌ بمعنى التّصوير هذا يُضاف إلى العبد ويُضافُ بمعنى التّقدير إلى العِباد أيضًا وإلى الله قال تعالى (فتَبارَك اللهُ أحسَنُ الخالقِين) أي المقَدّرين، معناه الله يُقَدّر وأنتم تُقَدّرون وتقديرُ الله أحسَنُ مِن تقديركُم لأنّ تقدير الله لا يَدخُله الخطأ ولا التّغيّر، ثم تقديرُ الله نافِذٌ لا مُمانِعَ له ولا مؤخِرَ له أمّا تقدير العبادِ قَد يَنفُذ وقد لا يَنفُذ إنْ نفَذ فعَلى حسَب مشيئةِ الله الأزلية وإنْ لم يَنفُذ فذلك لأنّ الله لم يشأ في الأزلِ أن يحصل.
هذه المسئلةُ مسئلةٌ متّفَقٌ علَيها بين أهلِ السّنة مِنَ الصّحابة والتّابعِين ومَن تبِعَهُم بإحسَانٍ إلى يوم الدّين.