إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال القاضي عياض اليحصبي المالكي (ت 544 هـ) في كتابه الشفا ج 2 – 214 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَنَقَّصَهُ (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَابَهُ أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ دِينِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ أَوْ عَرَّضَ بِهِ أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ أَوِ الْإِزْرَاءِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ وَالْعَيْبِ لَهُ فَهُوَ سَابٌّ لَهُ.
وَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ السَّابِّ يُقْتَلُ كَمَا نُبَيِّنُهُ وَلَا نَسْتَثْنِي فَصْلًا مِنْ فُصُولِ هَذَا الْبَابِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ، وَلَا نَمْتَرِي فِيهِ تَصْرِيحًا كَانَ أَوْ تَلْوِيحًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، أَوْ عَبَثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَجْرٍ ومنكر من القول وزور أوعَيَّرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم إلى هلم جرا.
قال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتُلُ وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ شَاتِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَنَقِّصَ لَهُ كَافِرٌ، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْقَتْلُ…وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَعَذَابِهِ كَفَرَ).
 
وفي مختصر العلامة خليل باب في بيان حقيقة الردة وأحكامها (الردة كفر المسلم بِصَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ).
 
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد أحمد عليش المالكي مفتي الديار المصرية الأسبق (ت 1299هـ) في منح الجليل على مختصر العلامة خليل ج 9 – 205 ما نصه:
وسواء كفر بقول صريح في الكفر كقوله كفر بالله أو برسول الله أو بالقرءان أو إلاله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزير ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ للكفر استلزاما بينا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرءان أو الرسول، وكاعتقاد جسمية الله وتحيزه…أو بفعل يتضمنه أي يستلزم الفعل الكفر استلزاما بينا كإلقاء أي رمي مصحف بشىء قذر. اهـ
 
قال الشيخ أبو عبد الله محمد أحمد عليش المالكي (1) مفتي الديار المصرية الأسبق (ت 1299 هـ) في فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ فِي الْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ المعروف كذلك بفتاوى ابن عليش رحمه الله (ج 2 – 348):
سؤال: مَا قَوْلُكُمْ فِي رَجُلٍ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ سَبُّ الدِّينِ (أي دين الإسلام) مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ (أي من غير قصد الخروج من الدين) هَلْ يُكَفَّرُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ أَوْ لَا يُكَفَّرُ وَفِيمَنْ فَضَّلَ كَافِرًا عَلَى مُسْلِمٍ هَلْ يُكَفَّرُ أَوْ لَا أَفِيدُوا الْجَوَابَ؟
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ نَعَمْ ارْتَدَّ لِأَنَّ السَّبَّ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ (2) وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ رِدَّةٌ فَالسَّبُّ رِدَّةٌ بِالْأَوْلَى وَفِي الْمَجْمُوعِ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ وَزَلَلِ لِسَانٍ انْتَهَى وَتَفْضِيلُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ فَهُوَ رِدَّةٌ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَبَقَ فِي مَبْحَثِ الطَّلَاقِ زِيَادَةُ شَوَاهِدَ لِتَكْفِيرِ سَابِّ الدِّينِ).
 
وفي القوانين الفقهية لابن جزي الكلبي الغرناطي (المتوفى 741هـ) الْبَاب الْعَاشِر فِي الْمُرْتَد والزنديق والساب والساحر (أما الْمُرْتَد فَهُوَ الْمُكَلف الَّذِي يرجع عَن الْإِسْلَام طَوْعًا إِمَّا بالتصريح بالْكفْر وَإِمَّا بِلَفْظ يَقْتَضِيهِ أَو بِفعل يتضمنه وَيجب أَن يُسْتَتَاب….).
 
ثمّ قال رحمه الله ((وَاعْلَم) أَن الْأَلْفَاظ فِي هَذَا الْبَاب تخْتَلف أَحْكَامهَا باخْتلَاف مَعَانِيهَا والمقاصد بهَا وقرائن الْأَحْوَال فَمِنْهَا مَا هُوَ كفر وَمِنْهَا مَا هُوَ دون الْكفْر وَمِنْهَا مَا يجب فِيهِ الْقَتْل وَمِنْهَا مَا يجب فِيهِ الْأَدَب وَمِنْهَا مَا لَا يجب فِيهِ شَيْء فَيجب الإجتهاد فِي كل قَضِيَّة بِعَينهَا وَقد استوفى القَاضِي أَو الْفضل عِيَاض فِي كتاب الشِّفَاء أَحْكَام هَذَا الْبَاب وَبَين أُصُوله وفصوله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ).
 
وفي التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب لخليل بن إسحاق بن موسى ضياء الدين الجندي المالكي المصري (المتوفى 776هـ) الرِّدَّةُ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِسْلامِ، وَتَكُونُ بصَرِيحٍ، وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، وَبفِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (حد المصنف الردة ظاهر التصور ونسأل الله العظيم بجاه النبي الكريم أن يعصمنا منها وأن يميتنا على الإسلام وهو راض عنا وأن يقلع من قلوبنا رعونات البشرية.
قوله (وَتَكُونُ) أي الردة، ويجوز أن تقرأ بالياء المثناة من تحت، تعود حينئذٍ على الكفر الصريح كالكفر بالله وبرسوله، واللفظ الذي يقتضيه كجحد الصلاة والصوم وما علم من الدين ضرورة، أو ادعى أن للنجوم تأثيراً، والفعل المضمن قالوا كإلقاء المصحف في القاذورات وتلطيخ الكعبة بها وشد الزنار ببلاد الإسلام، والسجود للصنم، ونقل ابن عبد السلام، وابن راشد عن القرافي، أن الخطيب إذا جاءه من يريد النطق بكلمة الإسلام، فقال اصبر حتى أقرأ خطبتي أنه يحكم بكفر الخطيب لأن ذلك يقتضي أنه أراد بقاءه على الكفر….).
 
قال الإمام حبيب بن الربيع أحد أكابر المالكية وهو من أصحاب الوجوه الذين يستخرجون الأحكام بالاستنباط من نصوص الإمام مالك رضي الله عنه في كتابه شرح الشفا للقاضي عياض (4 ص 378) ادّعاء التأويل في ألفاظ صراح لا يقبل) وما ينسب في المذهب من قول أن الصريح يؤول فهذا بعيد وغير مقبول.
وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي وهو من أصحاب الوجوه في المذهب المتوفى سنة 422 هجرية في شرحه على عقيدة مالك الصغير ص 28 ما نصه (ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشْيء ولا سألته الصحابة عنه ولأن ذلك إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى الاماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام). اهـ
 
(1) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد عليش الأشعري فَقِيه من أعيان المالكية مغربي الأصل تعلم في الأزهر وولي مشيخة المالكية فيه كان جريئا في الحق ينكر على أهل البدع ولو كان المبتدع ذَا منصب وجاه عند الدولة، توفي في القاهرة سنة (ت 1299 هـ)، والشَّيْخُ مُحَّمَد علَّيْش كَانَ يَحْمِلُ علَى مُحَمَّد عَبْدُه العَصَا، مُحَمَّد عَبْدُه أَفْسَدَ الأَزْهَرَ.
 
(2) وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ (أَيِ اعْتِقَادٍ) أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِاللَّهِ أَوْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ شَعَائِرِهِ أَوْ مَعَالِمِ دِينِهِ (وَالشَّعَائِرُ وَالْمَعَالِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالأَذَانِ وَالْمَسَاجِدِ) أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ وَعْدِهِ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ أَوْ وَعِيدِهِ بِالنَّارِ وَالْعَذَابِ كُفْرٌ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ أَيْ لِيَعْمَلِ الإنْسَانُ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ كُلِّهِ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.