إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

الردّ على شبهة من يزعم أنّ والدا النّبيّ ماتا كافرين
 
قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه (1) والِدا الرسولِ ما ماتا كافِرَين لكن بعضُ النُّسَّاخ حرّفوا فكتبوا ماتا كافِرين وهذا غلط شنيع، نحن لا نقول ماتا كافرَين إذ لا مانع من أن يكونا أُلهِما الإيمانَ بالله فعاشا مؤمنين لا يَعبُدان الوَثَن، أمّا حديث (إنّ أبي وأبَاكَ في النّار) فهو حديثٌ معلولٌ وإن أخرجه مسلم.
 
مسلمٌ لما قَدَّم كتابَه لبَعض الحفّاظ خَالفُوه في أربعةِ أحَاديثَ قالوا لهُ صَحِيحٌ إلا هذه الأربعَة، والسّيوطيّ في مؤلَّف لهُ سَمّاه إتحافُ الحُنَفاء في نَجاةِ أبَوَي المصطفى ردَّ فيهِ حديثَ مُسلِم (إنّ أبي وأباكَ في النّار).
في مسلم أحاديثُ انتقدَها بعض المحدّثين وهذا الحديث منها، وأمّا حديث (إن الرسولَ مكثَ عند قبر أمّه فأطال وبكى فقيل له يا رسول الله رأيناك أطلْتَ عند قبرِ أمّكَ وبكَيْتَ فقال إنّي استأذَنتُ ربّي في زيارتها فأذِن لي وطلَبتُ أن أستغفر لها فمنعني) هذا الحديث أيضًا في مسلم وهذا الحديثُ مؤوّل بأن يقالَ إنّما منَعَه من أن يستغفرَ لها حتى لا يلتبس الأمر على الناس الذينَ مات ءاباؤهم وأمّهاتُهم على عبادة الوَثن فيستغفروا لآبائِهم وأمّهاتِهمُ المشركينَ لا لأنّ أمَّ الرسولِ كانت كافرةً.
 
وهكذا يُرَدُّ على الذين أخذوا بظاهر الحديث فقالوا إنّ والدةَ الرسولِ مُشركةٌ لذلك ما أُذِنَ له بأن يستغفر لها، والدليلُ على أنّ أمَّه كانت مؤمنةً أنها لما ولدته أضاء نورٌ حتى أبْصَرت قصورَ الشام وبين المدينة والشام مسافةٌ بعيدةٌ، رأت قصورَ بُصرَى وبُصْرى هذه من مدُن الشام القديمةِ وهي تُعَدّ من أرضِ حَوران مما يلي الأردن، فأمّه عليه السلام رأت بهذا النّور الذي خرجَ منها لما ولدتهُ قصورَ بُصرَى وهذا الحديثُ ثابتٌ رواه الحافظ ابنُ حجرٍ في الأماليّ وحسّنه، ورؤيةُ ءامنة لقصور بُصرَى يُعَدُّ كرامةً لها لأن هذا خارق للعادة.
 
وفي الدرج المنيفة في الآباء الشريفة 103 يقول الإمام السيوطي عن الإمام أبي بكر بن العربي المالكي (نقلت بخط الشيخ كمال الدين الشمني والد شيخنا الإمام تقي الدين رحمهما الله تعالى ما نصه سئل القاضي أبو بكر بن العربي عن رجل قال إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار فأجاب بأنه ملعون لأن الله تعالى قال (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا)، قال (لا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار).
 
وفي التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى 671هـ)، باب في أمور تذكر الموت والأخرة ويزهد في الدنيا (وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزال تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به، ليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلاً ولا شرعاً، فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته).
 
وقال الإمام الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمته لكتاب العالم والمتعلم ص 7 (وفي مكتبة شيخ الإسلام العلامة عارف حكمت بالمدينة المنورة نسختان من الفقه الأكبر رواية حماد قديمتان وصحيحتان فيا ليت بعض الطابعين قام بإعادة طبع الفقه الأكبر من هاتين النسختين مع المقابلة بنسخ دار الكتب المصرية، ففي بعض تلك النسخ وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم ماتا على الفطرة و(الفطرة) سهلة التحريف إلى (الكفر) في الخط الكوفي، وفي أكثرها (ما ماتا على الكفر)، كأن الإمام الأعظم يريد به الرد على من يروي حديث (أبي وأبوك في النار) ويرى كونهما من أهل النار لأن إنزال المرء في النار لا يكون إلا بدليل يقيني وهذا الموضوع ليس بموضوع عملي حتى يكتفى فيه بالدليل الظني).
 
ويقول الحافظ محمد المرتضى الزبيدي شارح الإحياء والقاموس في رسالته الإنتصار لوالدي النبي المختار (وكنت رأيتها بخطه عند شيخنا أحمد بن مصطفى العمري الحلبي مفتي العسكر العالم المعمر ما معناه إن الناسخ لما رأى تكرر (ما) في (ما ماتا) ظن أن إحداهما زائدة فحذفها فذاعت نسخته الخاطئة، ومن الدليل على ذلك سياق الخبر لأن أبا طالب والأبوين لو كانوا جميعاً على حالة واحدة لجمع الثلاثة في الحكم بجملة واحدة لا بجملتين مع عدم التخالف بينهم في الحكم).
 
وعلق الإمام الكوثري (وهذا رأي وجيه من الحافظ الزبيدي إلا أنه لم يكن رأى النسخة التي فيها (ما ماتا) وإنما حكى ذلك عمن رآها، وإني بحمد الله رأيت لفظ (ما ماتا) في نسختين بدار الكتب المصرية قديمتين كما رأى بعض أصدقائي لفظي (ما ماتا) و (على الفطرة) في نسختين قديمتين بمكتبة شيخ الإسلام المذكورة).
 
وفي المواهب اللدنية 1 – 348 للزرقاني في شرح المواهب اللدنية (وقد بينا لك أيها المالكي حكم الأبوين، فإذا سئلت عنهما فقل إنهما ناجيان في الجنة، إما لأنهما أحييا حتى آمنا كما جزم به الحافظ السهيلي والقرطبي وناصر الدين بن المنير وإن كان الحديث ضعيفا ،كما جزم به أولهم ووافقه جماعة من الحفاظ لأنه في منقبة وهي يعمل فيها بالحديث الضعيف، وإما لأنهما ماتا في الفترة قبل البعثة ولا تعذيب قبلها، كما جزم به الأبي وإما لأنهما كانا على الحنيفية والتوحيد ولم يتقدم لهما شرك كما قطع به الإمام السنوسي والتلمساني المتأخر محشي الشفاء، فهذا ما وقفنا عليه من نصوص علمائنا ولم نر لغيرهم ما يخالفه إلا ما يشم من نفس ابن دحية، وقد تكفل برده القرطبي).
 
(1) كتاب الفقه الأكبر للإمام العلم أبي حنيفة رضي الله عنه ونفعنا به ءامين.