إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

الصفة الثالثة من المعاني العلم وهو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالواجب والجائز والمستحيل لأن العلم صفةُ كشفٍ وتجلي لا صفة تأثير، فيعلم ما هو عليه وما يجب له وما يستحيل ويعلم الكونَ بما فيه تفصيلاً ويعلم استحالة الشريك والولد. كيف وقد كرر في كتابه العزيز أدلة توحيده حتى قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } { ألا يعلم من
 
خلق } { وأحاط بما لديهم وأحصى كلَ شيءٍ عددا } { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } الآية.
 
وربما عَظُمَ في عينك هذه الإحاطة فارجع لقوله تعالى: { ما خلْقُكُم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدة } ولقوله تعالى: { وما قدروا اللهَ حقَ قدرِه والأرضُ جميعاً قبضتهُ يومَ القيامة والسمواتُ مطوياتٌ بيمينه } الآية. فأعلمنا عن عظمته بتقليل الكون حيث شبهه بقبضة يتصرف فيها قابضها من دون مشقة ولا عناء، فسبحان اللطيف الخبير فإن
 
أسرار الحق لا يدركها عقل فاطرح نفسك في بحر فضله واستمد به دون غيره واجتهد في مرضاته فإنه يعلّمُك ما لم تعلمه. قال تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } .
 
الصفة الرابعة من المعاني: الحياة ولا تتعلق بشيء، فهو الحي الدائم القيوم الباقي. والحياة في المخلوق مدرَكةٌ معلومة، وحياة الخالق صفة الله يعلمها (45) وهي عبارة عن الدوام. ومن اتصف بالحياة اتصف بسمعٍ وبصر وكلام (46) . وهذه الصفات الثلاثة تمام السبعة، فسمعُه يتعلق بكل موجود، وكذا بصرُه.
 
وليس سمعه بآلةٍ وجارحة كما أن بصرَه كذلك، فهو منزَهٌ عن سِمات الخلق. وهذه الصفات زائدةٌ على العلم وورد بها النص وهي كمال. والحق يجب له كلُ كمال (أي يليق به).
 
وأما كلامُه تعالى فقد كثر فيه الكلام لا سيما في عصر الشافعي رضي الله عنه حتى قال: “دعونا من علم إذا أخطأ فيه الإنسانُ يقال له كفر وعليكم بعلمٍ إذا أخطأ فيه الإنسان يقال له أخطأ”. ولما كثر الكلامُ في صفة كلامه تعالى سموا علمَ التوحيد علمَ الكلام.
 
قال المعتزلة أن كلامه تعالى مخلوق فهو متكلم بكلام يخلقه (47) . وقال جمعٌ: يتكلم بحروف قديمة. وقال جمع: ورق المصحف وجلده ونقشه قديمات، وهذا ظاهر البطلان، وكذا كون الحروف قديمة لأن الحروف لها تكيف وهيئات ومخارج، وذلك عين الحدوث. وقول المعتزلة مردود بأن الله تعالى سمى القرءان العظيم منزّلاً في
 
ءاياتٍ ولم يسمّهِ مخلوقا فنقف عند تسميته تعالى.
 
وأما مذهب أهل السنة أن كلامه النفسي القائم به تعالى صفتُهُ تتعلق بالواجب والجائز والمستحيل، لا حرف لها ولا صوت (48) هو بها ءامرٌ ناهٍ مخبِرٌ ولا يعلمها إلا هو تعالى وحده. وأن موسى سمع كلامَ الله الأزلي بغير حرفٍ ولا صوت (49) . فتفهموا ذلك رحمكم الله.
 
وأما القرءان العظيم والكتب المنزلة من السماء والحديث القدسي والصحف الربانية فكل ذلك كلامه تعالى (50) . ثم إطلاق هذا الاسم عليه إما من باب الإشتراك كالعين هي اسمٌ للباصرة والنابعة، أو من باب الحقيقة والمجاز كالأسد اسم للسبع حقيقة وللرجل الشجاع مجازا، ولا يجوز إطلاق لفظ الخلق عليها وإن قلنا منزلة والتنزيل حدوث (51)
 
لكن يجب الوقوف عند الوارد.
 
ثم المنزل إن كان مكتوباً كالتوراة فالمراد ما هو مكتوب، وإن كان وحياً كالقرءان فإنزاله بإنزال الملَك لأن الكلام عرَضٌ لا يقوم بنفسه بل بغيره؛ فإطلاق الإنزال عليه من إطلاق اسم المحل على الحالّ.
 
واعلم أنه لا فرق بين إنزال ونزل، خلافا لمن فرّق أخذا من قوله تعالى: { إنّا أنزلناه في ليلة القدر } فجعله لما أنزل تدريجاً، ومن قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرءان جملةً واحدة } الآية، فخَصَ لفظَ (نزّل) لما يكون جملةً، وهذا غلط لأنه لو اختص بالمجمل لما ذكر لفظ (جملة) مع لفظ (نزّل)، وقد قال
 
تعالى: { ونزلناه تنزيلا } فهما بمعنى واحد والله أعلم.
 
وقد قال كثير من العلماء أن اللفظ حادث والمعنى قديم وهذا قول صحيح، لكن فهِمَ بعضٌ أن المراد بالمعنى هو تفسير القرءان فقال: المعنى فيه قديم كذات الله تعالى وفيه حادث كفرعون، وهذا فهمٌ سقيم. وإنما المراد بالمعنى ما قام بالله تعالى لا ما قام بقلب السامع فإن الذي يستقر بقلب السامع كالملفوظ فافهم التعبير.
 
وقال بعض: كيف يأمر وينهى ويخبر في الأزل وليس هناك مَن يأتمر وينتهي ويسمع الأخبار؟ وفرّق بين الخبر والأمر والنهي فجعل الخبر قديما والأمرَ حادثا، وهذا وهمٌ خفي فإن صفة القدرة والحِلم والعفو والغفران وغيرها كذلك ليس هناك مَن تتعلق به القدرة وهذه الصفات وإنما هذا تعلق صلوحي كما تقدم، ثم لم يزل هذا التعلق إلى إبراز ذلك الأثر إلى ما
 
لم يزل. وإذا حدثتك نفسك بالاطلاع على حقيقة كلامه فارجع إلى كلامك تجد نفسك لا تقدر على إدراكه وهو قائم بك فحينئذ يجب رد العلم له تعالى وترك البحث.
 
فائدة: يجب السكوت عند قول القائلين بالتفضيل بين كلام الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم فالبحث في هذا الشأن حماقة وجهالة، وما ورد أن حرفا من القرءان خير من محمد وءال بيته هذا لم يصح فالواجب السكوت عن هذا. وأنت لا تدرك كيفية أكلك وشربك وبولك وألمك وفرحك، كيف تخوض في هذا الأمر؟ وقد تعذب أممٌ مِن العلماء على أن
 
يقولوا: “كلام الله مخلوق والقرءان مخلوق”، فتحمّلوا العذاب الشديد مِن أولاد الرشيد مدة من السنين ولم يقولوا هذه الكلمة وأنت تقولها من غير تعب.
 
القاعدة الثامنة: الصفات السبع المعنوية
 
يجب له تعالى سبع صفات يسمونها معنوية نسبة للمعاني وهي ملازمة للسبع السابقة، ولذا نسبت إليها وتسمى أحوالاً، وقيل الحال محال، والمراد تسميتها أحوالاً باللفظ النحوي لا بالمعنى المنتقل كجاء زيد راكبا، على أن الحال تكون مستمرة كخلق الله تعالى الغرابَ أسودَ فهي حالة لازمة.
 
وصفات الله السبعة المعنوية: قادر ومريد وعالم وحي وسميع وبصير ومتكلم. وهذه الصفات نفيها عنه تعالى كفر ولذا قال المعتزلة وغيرهم بها. فإن كل مؤمن وكل من نسب إليه الإيمان يشهد بهذه الصفات لكن على اختلاف في معناها. وقد علمت أنه تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ثم اختلف أهل العلم في
 
صفة الإدراك وهي تتعلق بالمشموم والملموس والمذوق من دون اتصال بمحالها فقيل: له صفة الإدراك لأنها من الكمالات، وقيل: صفة العلم والسمع والبصر كافية عنها، والله يعلم ما هو عليه. ولم يرد لها لفظ يدل عليها لا في كتاب ولا سنة.
 
واختلفوا في صفات الفعل كالتخليق والترزيق والإماتة والإحياء، فعند الأشاعرة لا يسمون ذلك صفة (52) بل يقولون: أفعاله تعالى حادثة لأنها تتعلق بالحادثات. وقال الماتريدية: أن صفات الأفعال قديمة (53) لأنه في الأزل متصف بالتخليق والترزيق وغيرها من صفات الأفعال. وقال الأشاعرة: هذا تعلق القدرة بالأشياء
 
قبل وجودها لا نفس الفعل. وهذا الخلاف لفظي لا معنوي، فإن تعلّق القدرة بالمقدورات قديم عندهما ولكن هذا التعلق ما اسمه؟ فقيل: اسمه صفة الفعل، وقيل: لا بل اسمه تعلق القدرة. وصفة الفعل هي إيجاد الموجود وإعدام المعدوم، وحينئذ فالمدار على اللفظ، والمعنى يرجع لأمر واحد.
 
فائدة: المالكية والشافعية أشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحنفية ماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي. وهما إماما أهل السنة والجماعة. والحنابلة أثرية لأنهم يتتبعون النصوص من دون تأويل، وأصحاب داود الظاهري يتبعون ظاهر النصوص حتى في الفقه. وهؤلاء كلهم على خير إن
 
شاء الله تعالى.
 
والمعتزلة فِرَقٌ، منهم مجسمون ومنهم القدرية يقولون: “لا قدَر” (54) ، ومنهم مَن ينكر العلم بالمفردات دون المجمَل من الخلق. وأما الذين يقولون بخلق القرءان وبالصلاح والأصلح والحسنُ ما حسّنه العقل وينفون الرؤية في الآخرة عن الله تعالى ويكفرون مرتكب الكبائر ويجعلون المنازل في الآخرة ثلاثة ويقولون: الخلق تخلق
 
أفعالها والله لا يخلق الفحشاء، فهؤلاء استمروا إلى مدة محمد الأمين وعبد الله المأمون أولاد هارون الرشيد وانتصروا بهما وشهروا مذهبهم وحملوا العلماء عليه بالسيف، ولما ظهر المعتصم ابن الرشيد فلم يسأل عن هذه الشرور فضعف حالهم. ثم لما ظهر المتوكل أظهر المذهب الشافعي رضي الله عنه ومذهب أهل السنة والجماعة ومحق اللهُ المعتزلة
 
ومزقهم كل ممزق. وكانوا من أتباع سيدنا أبي حنيفة في الفقه دون الاعتقاد، ولم يزل إلى الآن فيهم أهل اعتزال وسموا أنفسهم أهل العدل.
 
وأما الجبرية فإنهم ينفون الكسب عن العبد وربما أسقطوا عنه الكلف الشرعية لأنه لا فعل عندهم وعلى مذهبهم الإباحة القرندلية فعندهم لا حلال ولا حرام ولا كلفة.
 
وأما الجهمية (55) فإنهم يقولون لا يضر مع الإسلام ذنب كما لا ينفع مع الكفر عملٌ، فالإيمان عندهم كافٍ عن كل أمر لكنهم يتعبدون، ومنهم من يقول إذا عرف العبدُ ربَه لم يلزمه شيء بعد ذلك والتكليف لأهل الغفلة والحجاب.
 
وأما الرافضة (56) فإنهم اقسام، أخفهم مَن يفضل علياً على كل الصحابة، وباقي فرقهم لا يخلو من مكفِرٍ كقذف عائشة رضي الله عنه وغلط جبريل في النبوة والحلول في علي وجعفر وقذف الصحابة، وأهل الخفة منهم والرفق يتعبدون عبادة من غير دليل صحيح.
 
وأما الزنديق فهو الذي لا يتدين بدين.
 
وأما الملحدون فهم الذين يؤولون القرءان برأيهم الفاسد مثل: { صمٌ بكمٌ عميٌ } يقولون: صم عن غيره بكم عن غيره عمي عن غيره، والآية واردة في ذكر المنافقين فيخرجون القرءان عن مواضعه الواردة ويسمونهم الباطنية (57) فنسأل الله تعالى الحفظ والسلامة وأن يقبضنا إليه غير مفتونين حتى نلقاه على أحسن حال إنه أكرم الأكرمين