إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

ترجمة العلامة المحدث الشيخ محمد الحوت البيروتي
 
هو قدوة المحققين وعمدة المدققين وصدر العلماء العاملين والفضلاء الكاملين، بقية السلف الصالح الإمام المحدث الولي الكامل والتقي الفاضل الناسك الزاهد الورع العابد، صاحب المواهب الجليلة والمناقب الجزيلة السيد أبو عبد الله محمد ابن السيد درويش ابن السيد محمد الحوت البيروتي مولداً الشافعي مذهباً العلوي نسباً (نسبة إلى سيدنا علي رضي الله
 
عنه) من عائلة تقى وصلاح، ورهط فضل وفلاح.
 
مولده ونشأته
 
ولد في بيروت سنة تسع ومائتين وألف من الهجرة النبوية ونشأ في بيت والده السيد درويش، في بيت خرّج للمسلمين أكثر من عالم خدموا العلم والأمة. وما أن شب حتى انكب على الاغتراف من بحور العلم فحفظ القرءان الكريم اتقانا واستظهارا وترتيلاً على الشيخ علي الفاخوري. ثم تولع في طلب العلم والفنون فحفظ ألفية ابن مالك وحفظ كثيراً من
 
المتون.
 
وبأثنائها حضر من الديار المصرية العالم الرباني الشيخ محمد المسيري الاسكندراني فلازمه وأخذ عنه علم التوحيد وشرح الخلاصة النحوية وغير ذلك. وقرأ على مفتي بيروت العالم الفاضل الشيخ عبد اللطيف فتح الله. ثم رحل إلى دمشق الشام تتميما لمرغوبه ورغبة بإكمال مطلوبه فأخذ عن أجلاء علمائها الأعلام وكان أكثر تحصيله على علامة عصره
 
الشيخ عبد الرحمن الطيبي الشهير بالشافعي الصغير، وعلى مسند الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري، كما إنه أدرك العلامة الكبير الشيخ عبد الرحمن الكزبري وغيره من العلماء العاملين أمثال الشيخ صالح القزاز والشيخ خليل الخشي والشيخ أحمد بيبرس. كما إنه قرأ على العلامة الشيخ محمد بن عابدين الحنفي صاحب الفتاوى المشهورة.
 
رجوعه إلى بيروت
 
ولما عاد إلى موطنه بيروت أشار عليه الشيخ علي الفاخوري أن يدرّس في الجامع العمري الكبير رغبة بنفع الخاص والعام لما شاهد أن كثيرا من الأهالي ببحار جهله قد عام فأخذ يدرّس في جوار مقام سيدنا النبي يحيى عليه السلام رجاءً منه بأن العلم بعد موته ببلدته يحيا. غير أن ما كان جرى في ذلك الزمان بين مفتي بيروت والنائب من القيل والقال وسوء
 
الأحوال كان من أعظم المصائب على الأهالي حتى أفضاه الأمر إلى ترك القراءة والتدريس معتزلاً في بيته حينا من الزمن لم يكن عند قومه شيئا مذكورا إلى سنة ست وأربعين فإنها تغيرت الأحوال وهؤلاء الرجال، وعاد إلى التدريس فأشرقت شموس مواهبه وبزغت أنوار مناقبه وتفجرت عيون علومه فأشفت العليل، وتدفقت ينابيع فنونه فأروت الغليل فشهد
 
بفضله الخاص والعام وأنعش قلوب الأنام بلفظ كالبحر الزاخر ووعظ كعقود الدر في نحور الحرائر.
 
تلاميذه
 
وقد تخرج على يديه أكثر علماء بيروت ومنهم الشيخ عبد الباسط أفندي الفاخوري مفتي ولاية بيروت وهو أكبر تلاميذ الإمام، والأستاذ قاسم أبو الحسن الكستي والشيخ توفيق خالد والشيخ عمر الأنسي والسيد حسين أفندي بيهم وغيرهم من أهل العلم والفضل.
 
مؤلفاته
 
له مؤلفات مفيدة ومصنفات فريدة في كافة العلوم والفنون وهي:
 
1-  كتاب في أسماء رجال الإمام البخاري مرتب على حروف الهجاء.
 
2-  ذكر رتبة الأحاديث التي جردها الإمام عبد الرحمن التميمي من البخاري.
 
3-  كتاب في أخبار مأخوذة من كتاب الإمام أبي حفص عمر الأندلسي المرسي وهو الكتاب المعروف بـ (حسن الأثر فيما فيه ضعف واختلاف من حديث وخبر وأثر) وهو في جملته مبني على أبواب الفقه، وليس في الكتاب شيء من ذاتيات الحوت، إلا طائفة من تعليقات أحسن فيها الإحسان كله. ذكره العانوتي في كتابه (الحركة الأدبية في بلاد
 
الشام)، والزركلي في الأعلام. وقد وجد هذا الكتاب مخطوطا في مكتبة الأزهر الشريف.
 
4-  كتاب في ذكر أسماء الرجال الضعفاء والمتروكين. وهو شرح لتراجم رجال البخاري. وقد ذكر المناسبة بين الترجمة والحديث اللذَين طالما حارت فيهما أفكار أولي الألباب وكلت في المطابقة بينهما أقلام جهابذة العلماء الأعلام. ذكره العزوزي في كتابه (إتحاف ذوي العناية) وقد وجد هذا الكتاب الذي هو بخط المؤلف في مكتبة عبد
 
الحي الكتاني تحت رقم 328 ك حديث، وقد ضمت للخزانة العامة بالرباط. وهذا من جملة الكتب التي حملها عبد الحي إلى بلاده.
 
5-  كتاب في بيان الضعيف من أحاديث الجامع الصغير. وقد ذكر فيها الأحاديث الضعيفة المعللة بذكر الراوي المضعف أو المتروك أو الوضاع أو المتهم بالوضع ورتبها كالأصل على حروف الهجاء. وقد وجد هذا الكتاب الذي هو بخط المؤلف في دار الكتب المصرية تحت رقم 20357 ب، وقد فرغ من كتابته في شهر رجب سنة
 
1266 هـ.
 
6-  رسالة مشتملة على أخبار موضوعة.
 
7-  كتاب يشتمل على أحاديث تتعلق بأحكام مختلفة في المعفوات.
 
8-  رسالة تحتوي على منثورات فقهية.
 
9-  حاشية على شرح ابن حجر للأربعين النووية.
 
10-  كتاب مطول في المعفوات.
 
11-  كتاب موجز في الميراث. (ولعل هذا الكتاب هو الحاشية التي وضعها الشيخ محمد الحوت على شرح الرحبية لسبط المارديني، وقد وجد هذا الكتاب في مكتبة جمعية المقاصد الخيرية تحت رقم 109 ن، كتبت بخط الشيخ عمر الأنسي تلميذ المؤلف).
 
12-  شرح بانت سعاد (مطول).
 
13-  شرح بانت سعاد (موجز).
 
14-  رسالة في أمر يزيد. (وقد وجدَت هذه النسخة في أحد بيوتات ءال الحوت).
 
15-  رسالة في البيان. (ولعل هذا الكتاب هو الحاشية التي وضعها على كتاب مختصر المعاني والبيان للتفتازاني، وقد وجد هذا الكتاب في مكتبة جمعية المقاصد الخيرية تحت رقم 58).
 
16-  رسالة في الإسناد والاشتقاق.
 
17-  حاشية على شرح الأخضري للسلّم.
 
18-  كتاب يحتوي على بعض الكلمات العربية التي يحتاج إليها كل طالب علم لدورانها في الكلام.
 
19-  رسالة في الحساب.
 
20-  رسالة في علم الفلك. (وقد وجدَت هذه الرسالة التي هي بخط الشيخ عمر الأنسي في مكتبة جمعية المقاصد الخيرية تحت رقم 109ن).
 
21-  كتاب في تاريخ الصحابة.
 
22-  كتاب في شرح بيتي الموصلي.
 
23-  كتاب في التوحيد اسمه “الدرة الوضية في توحيد رب البرية”. ذكره كحالة في معجم المؤلفين 9: 299 وفهرس الأزهرية 459: 1.
 
24-  رسالة بخلق الأفعال.
 
25-  عقيدته التي أملاها على تلميذه الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت الأسبق، وقد املاها عليه في جلسة واحدة.
 
26-  كتاب الأحاديث المشتهرة المشكلة في الرتبة. وهو مصنف في الحديث المشهور على ألسنة الناس مما ينعت بالصحة حيناً وبالضعف أو الوضع حيناً ءاخر. وقد ذكر فيه الأحاديث التي ذكرها الشيخ عبد الرحمن بن الديبع اليمني التي جردها من مختصر المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة للسخاوي، فذكر رتبها وأقسامها
 
واعتمد في ذلك على شرح الجامع الصغير للمناوي ورتبها على حروف المعجم. وقد وجد هذا الكتاب الذي هو بخط المؤلف في دار الكتب المصرية تحت رقم 20361ب وقد فرغ من كتابته في شهر جمادى الأولى سنة 1265 هـ، وبهامش الكتاب تقييدات كثيرة بخطه. وقد رتبه ترتيباً أبجديا ولد الإمام العلامةُ الفاضل أبو زيد عبد الرحمن الحوت
 
وسماه “أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب”.
 
27-  كتاب الوضاعون وما وضعوا. وهو كتاب رتبه على حروف المعجم في كل حرف يذكر الأحاديث التي وضعها أولئك الوضاعون ففاق بذلك كل كتاب وضع في هذا الباب.
 
صفاته الخلقية
 
كان رضي الله عنه جامعا بين العلم والزهد وله اليد الطولى بتعليم العلوم الدينية، جليل القدر مسموع الكلمة يعزه أهل زمانه لعلمهم بتقواه وفضله. له مروءة تامة بعمل الخير والسعي فيه، يرغب الألفة بين العموم متصفاً بعلو الهمة ومكارم الأخلاق، يقول الحق ولا يخشى لومة لائم. وكان مكسبه من التجارة رغبة بالاستغناء عن الاحتياج للناس ومتقشفا
 
بملابسه اعراضا عن زهرة الدنيا، كان شافعي المذهب صوفي المشرب.
 
وكان طيب الله ثراه طويل القامة نحيف الجسم ابيض اللون خفيف اللحية والعارضين واسع الجبين أقنى الأنف أشهل العينين، سمحا كريما طيب النفس كثير الذكر والخشوع، جمّ التواضع فعالاً للخير برا بالطلبة حريصا على إفادتهم وتعليمهم، له نفس زكية لا تعرف الكبر، قوي الحجة ثابت الجأش.
 
كان ذا منطق عذب وحكمة بالغة، له لفظ أغلى من الدر إذا قال، وكان شديد التمسك بالسنة متولعا بدراستها، أنّى رأيته رأيت الخير والبركة والعلم والنور.
 
له نثر رائق وشعر فائق لم يُعثر إلا على اليسير منه لأنه كان مقلاً من الشعر لاستغراق وقته في الوعظ والإرشاد وإلقاء الدروس الخاصة والعامة. له تشطير هذين البيتين المشهورين يقول:
 
ومن عجبٍ أن الصوارم والقنا … رحى كل حرب في الفلاة تدورُ
 
ولم أر من عيب بها غير أنها … تحيض بأيدي القوم وهي ذكورُ
 
وأعجب من ذا أنها في أكفهم … تميل لها الأرواح وهي تمورُ
 
كآل رسول الله أضحت سيوفهم … تؤجج نارا والأكف بحورُ
 
وفاته
 
وفي ليلة الأربعاء لسبع ليالٍ خلت من شهر ذي الحجة الحرام من سنة ست وسبعين ومائتين وألف قضى نحبه بعد أن مرض برهة يسيرة.
 
وصلي عليه ظهرا في الجامع العمري الكبير ودفن بتربة الباشورة في مشهد شهده الكبير والصغير والأمير والحقير. وقد قال تلميذه الشيخ عبد الباسط الفاخوري: “لم أنظر له نظيرا لما حواه من الجموع على اختلاف الملل وتباين النحل فكان ذلك دليلاً بينا وبرهانا ساطعا على اعتبار العموم له، واعترافهم بتقواه وفضله.
 
وخلاصة القول أنه عاش كريما ومات عظيما فبكت عليه العلوم وأهلها وحزن لمصابه القريب والبعيد ورثاه جملة من أدباء عصره.
 
وقد نزل على الأمة بفقد هذا الإمام الجليل خطب عظيم ومصاب جسيم. فقام شعراء عصره على منابر نعيه معددين ءاثاره ومناقبه فقال العالم الفاضل والشاعر الشيخ قاسم افندي الكستي في رثاء شيخه:
 
أقيموا فروض الصبر واغتنموا الأجرا … على حوتِ علمٍ أبحرَ الدمع قد أجرى
 
هو المرشد الحبر المسمى محمدا … ومن هو بالعرفان من غيره أدرى
 
بمسراه ودعنا الفضائل كلها … ونادى لسان الحال سبحان من أسرى
 
ورثاه العالم العامل والجهبذ الكامل الشيخ مصطفى أفندي نجا فقال:
 
مضى حوت بحر العلم وهو محمدُ … وبالفضل ما زالت له الناس تشهدُ
 
نعم هذه ءاثاره وحديثها … حديث صحيح طيب النشر مسنَدُ
 
هو العالم العلامة العلم الذي … به لطريق الحق من ضل يُرشدُ
 
وقد رثاه أيضا ناصيف اليازجي فقال:
 
قف فوق رابية تُجاه المسجد … وقل السلام على ضريح محمد
 
واتل الفواتح فوق تربته التي … حُفّت بأملاك تروح وتغتدي
 
ما زال يسعى كل يومٍ باحثا … في يومه عما يحاسب في غد
 
علم من الأقطاب أصبح مفردا … في العالمين بفضله المتعدد
 
قد صح وضع الحوت في لقب له … إذ خاض في بحر العلوم المزبد
 
صافي السريرة مخلص لله في … عملٍ سليم القلب عذب المورد
 
متواضع فوق الكرامة كلما … قامت عُلاه يقول للنفس اقعدي
 
لم تغرهِ الدنيا فكان نصيبه … نَصَبَ العبادة لا نصاب العسجد
 
حزن القريب عليه ملتاعا كما … حزن البعيد على الحديث المسند
 
لم تبق عين في البلاد عليه ولم … تدمع ولا شفة له لم تُحمَدِ
 
بيروت نوحي في الأصائل والضحى … حزنا عليه ولا أقول تجلّدي
 
قد غاب عنك وفيك بدر مشرق … بدر التمام إزاءه كالفرقد
 
بدر يدور على العيون فتنجلي … أبصارها وعلى القلوب فتهتدي
 
ما عيب قط بريبة إذ لم يزل … طول الحياة لنفسه بالمرصد
 
يشكى إليه ليس منه فإنه … عن كل سوء كان مكفوف اليد
 
يا أيها الميت الذي يبقى له … في أرضنا ذكر ليوم الموعد
 
قد مُتَّ في الدنيا كأنك لم تمت … والبعض مات كأنه لم يولَدِ
 
ومرقده الشريف في الجبانة العامة وهو مقصد للزوار، وبركاته الكثيرة كالشمس في رابعة النهار.
 
أولاده
 
أعقب عقباً صالحاً وذرية صالحة وهما:
 
العالم الفاضل الشيخ محمد أفندي.
 
والمحقق الكامل بقية السلف الصالح العامل على إقامة الشعائر وتشييد المساجد والمدارس وإحياء العلوم الشيخ عبد الرحمن نقيب السادة الأشراف في ولاية بيروت.
 
ولد في بيروت سنة 1846 وانتخب رئيساً لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وله اليد الطولى في تعمير أغلب مساجد بيروت والأزهر. توفي سنة 1916. وكلاهما قد اقتفيا أثر والدهما ونهجا منهجه القويم بالعلم والعمل الصالح وفقنا الله لما فيه رضاه.
 
الترجمة من إعداد فضيلة الشيخ الدكتور كمال يوسف الحوت حفظه الله