إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
ثم يقال لهم: أتزعمون أن القائمين بالذات يكون كل واحد منهما بجهة من صاحبه على الإِطلاق، أم بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ فإن قالوا: نعم على الإِطلاق، فلا نسلم، وما استدلوا به من الشاهد فهما محدودان متناهيان. وإن قالوا: نقول ذلك بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا، فمسلَّم، ولكن لم قلتم إن البارىء محدود متناه! ثم إنا قد أقمنا الدلالة على استحالة كونه محدودًا متناهيًا، والله الموفِق.
* وأما الشبهة الثانية التي تعلقوا بها أنه تعالى كان ولا عَالَم ثم خلقه، أخلقه في ذاته أم خارج ذاته؟ وكيفما كان فقد تحققت الجهة.
فنقول وبالله التوفيق: إن هذا شَىءٌ بنيتم على ما تضمرون من عقيدتكم الفاسدة أنه تعالى متبعض متجزىء، وإن كنتم تتبرّءُون منه عند قيام الدلالة على بطلان تلك المقالة وتزعمون أنا نعني بالجسم القائم بالذات، وهذه المسألة بنفس المقالة. وما تتمسكون به من الدلالة يهتك عليكم ما أَسْبَلتم من أستاركم ويبدي عن مكنون أسراركم، أما بنفس المقالة فلأن شغل جميع العرش مع عظمته لن يكون إلا بمتبعض متجزىء على ما قررنا، وأما بالدلالة فلأن الداخل والخارج لن يكون إلا ما هو متبعض متجزىء، وقيام الدلالة وانضمام ظاهر إجماعكم على بطلان ذلك يغنينا عن الإِطالة في إفساد هذه الشبهة والله الموفِق.
وربما يقلبون هذا الكلام ويقولون بأنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم، وليس بداخل العالَم فكان خارجًا منه، وهذا يوجب كونه بجهة منه.
والجواب عن هذا الكلام على نحو ما أجبنا عن الشبهة المتقدمة أن الموصوف بالدخول والخروج هو الجسم المتبعض المتجزىء، فأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يوصف بكونه داخلاً ولا خارجًا، ألا ترى أن العرض القائم بجوهر لا يوصف بكونه داخلاً فيه ولا خارجًا منه؟ فكذا القديم لَمّا لم يكن جسمًا لا يوصف بذلك، فكان هذا الكلام أيضًا مبنيًا على ما يضمرون من عقيدتهم الفاسدة.
وكذا الجواب عما يتعلق به بعضهم أنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون مماسًّا للعالم أو مباينًا عنه، وأيهما كان ففيه إثبات الجهة، أنَّ ما ذكره من وصف الجسم، وقد قامت الدلالة على بطلان كونه جسمًا، ألا ترى أن العَرَض لا يوصف بكونه مماسًّا للجوهر ولا مباينًا له؟ وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحق الوجود، بل هو من لواحق التبعض والتجزؤ والتناهي، وهي كلها محال على القديم تعالى، والله الموفِق.
* وأما حل الشبهة الثالثة وهي أن الموجودَين لا يعقلان موجودَين إلا وأن يكون أحدهما بجهة صاحبه أو بحيث هو. قلنا: هذا منكم تقسيم للموجودَين، وليس من ضرورة الوجود أحدُ الأمرين، لأنهما إن كانا موجودين لأن أحدهما بجهة صاحبه ينبغي ألا يكون الجوهر وما قام به من العرض موجودَين لأن أحدهما ليس بجهة صاحبه، وإن كانا موجودَين لأن أحدهما بحيث صاحبه، ينبغي ألا يكون الجوهران موجودَين لأن أحدهما ليس بحيث صاحبه، وقد مَرّ ما يوجب بطلان هذا في إبطال قول النصارى: إن الموجود إما أن يكون جوهرًا وإما أن يكون جسمًا وإما أن يكون عرَضًا، والبارىء جل وعلا ليس بجسم ولا عَرَض، فدل أنه جوهر، فإن بطل ذاك بطل هذا، وإن صح هذا صح ذاك، بل كِلا الأمرين باطل لما مَرَّ. والله الموفِّق.
وما يزعمون أنه لا عَدَمَ أشد تحققًا من نفي المذكور من الجهات الست وما لا جهة له لا يتصور وجوده. فنقول: ذكر أبو إسحق الإِسفرايني أن السلطان ـ يعني به السلطان محمود بن سُبُكتِكين ـ قَبلَ هذا السؤال من القوم من الكرَّامية وألقاه على ابن فورَك، قال وكتب به ابن فورك إليّ ولم يكتب بماذا أجاب، ثم اشتغل أبو إسحق بالجواب، ولم يأت بما هو انفصال عن هذا السؤال بل أتى بما هو ابتداء دليل في المسئلة من أنه لو كان بجهة لكان محدودًا، وما جاز عليه التحديد جاز عليه الانقسام والتجزؤ، ولأن ما جاز عليه الجهة جاز عليه الوصل والتركيب وهو أن تتصل به الأجسام، وذا باطل بالإِجماع، ولأنه لو جازت عليه الجهة لجازت إحاطة الأجسام به على نحو ما قررنا، وهذا كله ابتداء الدليل وليس بدفع للسؤال. وللكرّامي أن يقول: لو كان ما ذكرتَ من الأدلة يوجب بطلان القول بالجهة لما في إثباتها من إثبات أمارات الحدث، فما ذكرت من الدليل يوجب القول بالجهة لما في الامتناع عن القول به إثبات عدمه، فكما لا يجوز إثبات حدوث ما ثبت قدمه بالدليل لا يجوز نفي ما ثبت وجوده بالدليل. وحلُّ هذا الإِشكال أن يقال: إن النفي عن الجهات كلها يوجب عدم ما هو بجهة من النافي أم عدم ما ليس بجهة منه؟ فإن قال: عدم ما هو بجهة منه، قلنا: نعم، ولكن لم قلتم إن البارىء جل وعلا بجهة من النافي؟ فإن قال: لأنه لو لم يكن بجهة منه لكان معدومًا، فقد عاد إلى ما تقدم من الشبهة، وقد فرغنا بحمد الله عن حلها. وإن قال: النفي عن الجهات يوجب عدم ما ليس بجهة منه، فقد أحال، لأن ذلك لا يوجب عدم النافي وما قام به من الأعراض لما لم يكن بجهة من نفسه، فكذا لا يوجب عدمَ البارىء جل وعلا لأنه ليس بجهة من النافي. فإن قالوا: إذا لم يكن بجهة منه ولا قائمًا به يكون معدومًا، فقد عادوا إلى الشبهة الثالثة، وقد فرغنا من حلها بتوفيق الله تعالى.
والأصل في هذا كله أن ثبوت الصانع جل وعلا وقِدمه عُلِمَ بما لا مدفَعَ له من الدلائل ولا مجال للريب فيه، فقلنا بثبوته وقدمه وعرفنا استحالة ثبوت أمارات الحدث في القديم فنفينا ذلك عنه لما في إثباتها من إثبات حدوث القديم أو بطلان دلائل الحدث، وذلك باطل كله على ما قررنا، وفي إثبات المكان والجهة إثبات دلالة الحدث على ما مَرَّ. وليس من ضرورة الوجود إثبات الجهة، لأن نفسي وما قام بها من الأعراض ليست مني بجهة، وهي موجودة، وما كان مني بجهة ليس بقائم بي وهو موجود، وكذا ليس من ضرورة الوجود أن يكون فوقي لوجود ما ليس فوقي، ولا أن يكون تحتي لوجود ما ليس تحتي، وكذا قدامي وخلفي وعن يميني وعن يساري، وإذا ثبت هذا في كل جهة على التعيين ثبت في الجهات كلها، إذ هي متركبة من الأفراد. فإذًا ليس من ضرورة الموجود أن يكون مني بجهة لوجود ما ليس مني بجهة، ولا أن يكون قائمًا بي لوجود ما ليس بقائم بي. وظهر أن قيام الشىء بي وكونه بجهة مني ليسا من لواحق الوجود وضروراته على ما قررنا هذا الكلام في نفي كونه تعالى عرضًا أو جوهرًا أو جسمًا، وخروج الموجود عن هذه المعاني كلها معقول لِمَا بيّنا من الدلائل أن ليس من ضرورة الوجود ثبوت معنى من هذه المعاني كلها لمَا مَرَّ من ثبوت موجود ليس فيه كل معنى من هذه المعاني على التعيين، غير أنه ليس بموهوم لِمَا لم يُحس موجود تعرّى عن هذه المعاني كلها، إذ ما يُشاهد في المحسوسات كلها محدثة وارتفاع دلالة الحدث عن المحدَث محال، وفي الحق تعالى الأمر بخلافه. وليس من ضرورة الارتفاع عن الوهم العدمُ لما ثبت من الدلائل العقلية على الحدوث، وظهور التفرقة بين المعقول والموهوم على ما تقدم ذكره على وجه لا يبقى للمنصف فيه ريبة.
ثم إن الله تعالى أثبت في نفس كل عاقل معاني خارجة عن الوهم لخروجها عن درك الحواس، ويعلم وجودها على وجه لم يكن للشك فيه مدخل لثبوت ءاثارها، كالعقل والروح والبصر والسمع والشم والذوق، فإن ثبوت هذه المعاني متحقق والأوهام عن الإِحاطة بمائيتها قاصرة لخروجها عن الحواس المؤدية المدركة صور محسوساتها إلى الفكرة، ليصير ذلك حجة على كل من أنكر الصانع مع ظهور الآيات الدالة عليه لخروجه عن التصور في الوهم، ويعلم أن لا مدخل للوهم في معرفة ثبوت الأشياء الغائبة عن الحواس، ومن أراد الوصول إلى ذلك بالوهم ونفي ما لم يتصور فيه مع ظهور ءايات ثبوته فقد عطل الدليل القائم لانعدام ما ليس يصلح دليلاً، فيصير كمن أنكر وجود البياض في جسم مع معاينته ذلك لعدم استدراك ذلك بالسمع، وجهالةُ مَن هذا فعلُه لا يخفى عن الناس، فكذا هذا.
ثم لا فرق بين من أنكر الشىء لخروجه عن الوهم وبين من جعل خروج الشىء عن الوهم دليلاً للعدم، لما فيهما جميعًا [ممن] قصر ثبوت الشىء ووجوده على الوهم، وخروج الموجود عن جميع أمارات الحدث غير موهوم لما لم نعاين موجودًا ليس بمحدث، وإثبات أمارات الحدث في القديم محال، ونفيها عن القديم إخراجُه عن الوهم، وبخروجه عن الوهم يلتحق بالعدم فإذًا لا وجود للقديم، فصارت المجسمة والقائلون بالجهة والجاعلون ما لا يجوز عليه الجهة في حيز العدم قائلين بعدم القديم، فضاهوا الدهرية في نفي الصانع الذي ليس فيه شىء من أمارات الحدث، وساعدوهم بإثبات قِدَمِ من هو متمكن في المكان أو متحيز إلى جهة في إثبات قِدم من تحققت أمارات حدوثه، وبإثبات القِدَم للعالَم نفي الصانع. فإذًا عند الوقوف على هذه الحقائق علم أنهم هم النافون للصانع في الحقيقة دون من أثبته ونفى عنه الجهة والتمكن اللذين هما من أمارات الحدث. والله الموفِّق.
وهذا هو الجواب عن قولهم: إن الناس مجبولون على العلم بأنه تعالى في جهة العلو، حتى إنهم لو تُركوا وما هم عليه جُبلوا لاعتقدوا أن صانعهم في جهة العلو. فإنا نقول لهم: إن عنيتم بهذا من لم يرض عقله بالتدبر والتفكر ولم يتمهر في معرفة الحقائق بإدمان النظر والتأمل، فمسلّم أنه بهواه يعتقد أن صانعه بجهة منه، لِمَا أنه لا يعرف أن التحيز بجهةٍ من أمارات الحدث وهي منفية عن القديم، ولما يرى أن ما ليس بقائم به يكون منه بجهة، ثم يرى صفاء الأجرام العلوية وشرف الأجسام النيرة في الحس فظن جهلاً منه أنه تعالى لا بد من كونه بتلك الجهة منه لخروج ما ليس بقائم به ولا بجهة منه عن الوهم، وفضيلة تلك الجهة على سائر الجهات عنده. وإن عنيتم به الحذّاق من العلماء العارفين بالفَرق بين الجائز والممتنع والممكن والمحال فغير مسلّم، إذ هؤلاء يبنون الأمر على الدليل دون الوهم، وقد قام الدليل عندهم على استحالة كونه تعالى في جهة. والله الموفِّق.
وتعلقهم بالإِجماع برفع الأيدي إلى السماء عند المناجاة والدعاء باطلٌ، لما ليس في ذلك دليل كونه تعالى في تلك الجهة، هذا كما أنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى:{قد أفلح المؤمنون*الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون/1.2] بعدما كانوا يصلون شاخصة أبصارهم نحو السماء، وليس هو في الأرض، وكذا حالة السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض، وليس هو تعالى تحت الأرض، فكذا هذا. وكذا المتحري يصلي إلى المشرق واليمن والشام، وليس هو تعالى في هذه الجهات. ثم هو يعبد كما في هذه المواضع ويُحتمل أنه تعالى أمر بالتوجه إلى هذه المواضع المختلفة عند اختلاف الأحوال ليندفع وهْم تحيزه في جهة ويصير ذلك دليلاً لمن عرفه أنه ليس بجهة منا. وقيل إن العرش جُعل قِبلة للقلوب عند الدعاء كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حالة الصلاة. واستعمال لفظة الإِنزال والتنزيل منصرف إلى الآتي بالقرءان، فأما القرءان فلا يوصف بالانتقال من مكان إلى مكان، والآتي به وهو جبريل عليه السلام كان ينزل من جهة العلو لما أن مقامه كان بتلك الجهة. والله الموفِّق.
فأما تعلقهم بتلك الآيات فنقول في ذلك: إنّا ثبَّتنا بالآية المحكمة التي لا تحتمل التأويل، وبالدلائل العقلية التي لا احتمال فيها أن تمكنه في مكان مخصوص أو الأمكنة كلها محال، فلا يجوز إبطال هذه الدلائل بما تلوا من الآيات المحتملة ضروبًا من التأويلات بل يجب حملها على ما يوافق الدلائل المحكمة دفعًا للتناقض عن دلائل الحكيم الخبير جلت أسماؤه، يحقق هذا أن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما تحتمله من التأويل يوجب تناقضًا فاحشًا في كتاب الله تعالى، وبنفيه استدل الله تعالى على أن القرءان من عنده بقوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [سورة النساء/82]، وبيانه أنه تعالى قال في ءاية:{الرحمن على العرش استوى} [سورة طه/5]، وقال في ءاية أخرى:{ءأمنتم من في السمآء} [سورة الملك/19]، وقال في ءاية أخرى:{ما يكون من نجوى ثالثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة/7]، وقال في ءاية أخرى:{إن ربّك لبالمرصاد} [سورة الفجر/14]، وقال في ءاية أخرى:{ألا إنه بكل شىء محيط} [سورة فصلت/54]، ثم لا وجه إلى القول بأنه على العرش وأنه في السماء وأنه بالمشرق وعند المتناجين وبالمغرب والروم والزنج والهند والعراق، بل في كل بلدة وقرية في حالة واحدة عند المتناجين في هذه الأمكنة في ساعة ولا في ساعات بالتحول والتنقل لاستحالة الحركة عليه، وأنه بالمرصاد وأنه محيط بكل شىء من جوانبه الأربع فيصير كالحقّة لكل شىء، لما في كون شىء واحد في الأمكنة الكثيرة من الامتناع.
وليس من يُجري بعض هذه الآيات على الظاهر ويصرف ما وراء ذلك إلى ما عنده من التأويل بأولى من صاحبه الذي يرى في تعيين المكان خلاف رأيه. فإذًا ظهرت صحة ما ادعيناه من تعذر حمل الآيات على الظاهر، ووجوب الصرف إلى ما يصح من التأويلات”. انتهى كلام النسفي.
________________________________________