إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

الدّليل العقلي على تنـزيه الله عن المكان والجهة
 
اعلم أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه، والعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع، إذ أن الشرع لا يأتي إلا بمجوَّزات العقل كما قال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي (الفقيه والمتفقه/ص94) :”الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا” اهـ.
 
فسنبين في هذا الباب أن الله منـزه عن الجهة والمكان بالأدلة العقلية والبراهين القطعية لدحض مزاعم المجسمة وغيرهم من الفرق المنحرفة عن أهل السنة والجماعة، وإليك بيان ذلك من أقوال العلماء:
________________________________________
1ـ قال الشيخ أبو سعيد المتولي الشافعي الأشعري (478هـ) في كتابه “الغُنية في أصول الدين” (ص73-74-75) ما نصه :”والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافًا للكرّامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا إن لله جهة فوق. وأطلق بعضهم القول بأنه جالس على العرش مستقر عليه، تعالى الله عن قولهم.
والدليل على أنه مستغن عن المحل أنه لو افتقر إلى المحل لزم أن يكون المحل قديمًا لأنه قديم، أو يكون حادثًا كما أن المحل حادث، وكلاهما كفر. والدليل عليه أنه لو كان على العرش على ما زعموا، لكان لا يخلو إما أن يكون مِثْل العرش أو أصغر منه أو أكبر، وفي جميع ذلك إثبات التقدير والحد والنهاية وهو كفر. والدليل عليه أنه لو كان في جهة وقدرنا شخصًا أعطاه الله تعالى قوة عظيمة واشتغل بقطع المسافة والصعود إلى فوق لا يخلو إما أن يصل إليه وقتًا ما أو لا يصل إليه.
فإن قالوا لا يصل إليه فهو قول بنفي الصانع لأن كل موجودين بينهما مسافة معلومة، وأحدهما لا يزال يقطع تلك المسافة ولا يصل إليه يدل على أنه ليس بموجود.
فإن قالوا يجوز أن يصل إليه ويحاذيه فيجوز أن يماسه أيضًا، ويلزم من ذلك كفران:
أحدهما: قدم العالم، لأنا نستدل على حدوث العالم بالافتراق والاجتماع.
والثاني: اثبات الولد والزوجة” اهـ.
 
________________________________________
2ـ وقال الشيخ أبو حامد الغزالي الشافعي الأشعري (505هـ) في كتابه “إحياء علوم الدين” (ج1/ص127) ما نصه :”الأصل الرابع: العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيَّز، بل يتعالى ويتقدّس عن مناسبة الحيّز، وبُرهانُه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيِّزه، ولا يخلو من أن يكون ساكنًا فيه أو متحركًا عنه، فلا يخلو عن الحركة أو السكون وهما حادثان، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث” اهـ.
 
________________________________________
3ـ وذكر الشيخ أبو المعين النسفي الحنفي (508هـ) في كتابه “تبصرة الأدلة في أصول الدين” (ج1/ص174ـ183) براهين قاطعة وحججًا ساطعة في رد شبه المجسمة السابقين والوهابية المعاصرين الذين يزعمون أنَّ الله اتخذ العرش مستقرًّا ومسكنًا له وكرسيًا يجلس عليه والعياذ بالله من الكفر والخذلان، فقال ما نصه: “وللمجسمة شبه ثلاثة:
* الأولى قولهم إن الموجودَيْن القائِميْن بالذات لا يخلُوان من أن يكون كل واحد منهما بِجهةٍ من صاحبه.
 
فنقول وبالله التوفيق: الموجودان القائمان بالذات كل واحد منهما في الشاهد يجوز أن يكون فوق صاحبه والآخر تحته، أتجوّزون هذا في الحق تعالى؟ فإن قالوا: نعم تركوا مذهبهم، فإنهم لا يجوزون أن يكون البارىء جل وعلا تحت العالم، وإن قالوا: لا، أبطلوا دليلهم، فإن قالوا: إنما لم نجوز هذا في الحق تعالى لأن جهة تحت جهة ذم ونقيصة، والبارىء جل وعلا منزه عن النقائص وأوصاف الذم. قيل لهم: فإذًا أثبتم التفرقة بين الشاهد والحق عند وجود دليل التفرقة حيث لم تجوزوا أن يكون الحق تعالى بجهة تحت وإن كان ذلك في الشاهد جائزًا لثبوت دليل التفرقة وهو استحالة النقيصة ووصف الذم على الحق وجواز ذلك على الشاهد، فلم قلتم إن دليل التفرقة فيما نحن فيه لم يوجد؟ بل وجد لِمَا مرّ أنه يوجب الحدوث وهو ممتنع على الحق، جائز بل واجب على الشاهد.
ثم نقول لهم: كون جهة تحت جهة ذم ونقيصة غير مسلَّم، إذ لا نقيصة في ذلك ولا رفعة في علو المكان، إذ كم من حارس فوق السطح وأمير في البيت، وطليعة على ما ارتفع من الأماكن وسلطان في ما انهبط من الأمكنة.
 
ثم نقول لهم: كل قائم بالذات في الشاهد جوهر وكل جوهر قائم بالذات، أفتستدلون بذلك على أن الحق تعالى جوهر؟!، فإن قالوا: نعم فقد تركوا مذهبهم ووافقوا النصارى؛ وإن قالوا: لا، نقضوا دليلهم.
 
ثم نقول لهم: إنما يجب التعدية من الشاهد إلى الحق إذا تعلق أحد الأمرين بالآخر تعلق العلة بالمعلول كما في العلم والعالِم والحركة والمتحرك، وذلك مما لا يقتصر على مجرد الوجود بل يشترط فيه زيادة شرط وهو أن يستحيل إضافته إلى غيره، ألا يرى أن العالِم كما لا ينفك عن العلم والعلم عن العالِم يستحيل إضافة كونه عالِمًا إلى شىء وراء العلم، فعلم أنه كان عالمًا لأن له علمًا، فوجبت التعدية إلى الحق والجوهرية مع القيام بالذات وإن كانا لا ينفكان في الشاهد، ولكن لما لم يكن جوهرًا لقيامه بالذات بل لكونه أصلاً يتركب منه الجسم، لم يجب تعدية كونه جوهرًا بتعدي كونه قائمًا بالذات، وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم إنهما كانا في الشاهد موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، أو كان كل واحد منهما بجهة صاحبه لأنهما موجودان قائمان بالذات؟
ثم نقول لهم: لو كانا موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، لكان الموجود القائم بالذات بالجهة وإن لم يكن معه غيره، ولكان البارىء جلَّ وعلا في الأزل بجهة لأنه كان موجودًا قائمًا بالذات، وهذا محال، إذ الجهة لا تثبت إلا باعتبار غير، ألا يرى أن الجهات كلها محصورة على الست وهي: فوق وتحت وخلف وقدام وعن يمين وعن يسار، وكل جهة منها لن يتصور ثبوتها إلا بمقابلة غيرها، والكل يتركب من الفرد، فإذا كان كل فرد من الجهات لن يتصور إلا بين اثنين، فكان حكم كلية الجهات كذلك لما مَرَّ من حصول المعرفة بالكليات بواسطة الجزئيات، وإذا كان الأمر كذلك كان تعليق الجهة بالوجود والقيام بالذات مع أن كل واحد منهما يثبت باعتبار النفس دون الغير والجهة لا تثبت إلا باعتبار الغير، جهلاً بالحقائق.