إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال ابن عساكر في عقيدته:
“جميعُ الخلائِقِ مقهورونَ بقدرتِهِ، لا تَتَحركُ ذرةٌ إلا بإذنِهِ، ليسَ معهُ مدبرٌ في الخَلقِ ولا شريكٌ في الملكِ“.
الشرح: أن العرش الذي هو أعظم الأجرام حجمًا مقهور لله تعالى، الله هو الذي خلقه وجعله في هذا المكان المرتفع جدًّا وهو الذي يبقيه في ذلك الموضع فلا يخرُّ على السموات والأرض فيدمرها تدميرًا، فما سوى العرش مقهور لله من باب الأولى، قال الله تعالى: {وهو ربًُّ العرش العظيم} [سورة التوبة]، وهو سبحانه وتعالى المدبّر لكل شىء أي الذي يصرف الأشياء على مقتضى مشيئته وعلمه الأزليين فلا يحصل في كل العالم حركة ولا سكون إلا بتدبيره عزَّ وجلَّ. هو تعالى مصرّف الأشياء ومصرّف القلوب كيف يشاء، إن شاء أزاغ قلب العبد وإن شاء أقامه كما قال عزَّ وجلَّ: {ونُقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم} [سورة الأنعام]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك” رواه مسلم والبيهقي. فلا مدبّر تدبيرًا شاملًا لجميع الخلائق إلا الله، وأما التدبير الجزئي كتدبير الملائكة لأمر المطر والسحاب والنبات على حسب ما أمر الله وشاء في الأزل فيجوز إضافة مثل هذا إلى المخلوق كما قال الله في الملائكة: {فالمدبرات أمرًا} [سورة النازعات]، وإذا كان تصريف القلوب بيد الله فالأعمال الخارجية هي بالأولى خلق لله، وليس الأمر كما تقول المعتزلة إن العبد هو خلق أفعال نفسه وليس الله خالق كل شىء، قبَّحهم الله. الله تعالى قال: {الله خالقُ كُلِّ شىء} [سورة الزمر] والشىء يدخل تحته الأجسام والجوارح والأفعال فالعبد ليسَ له إلا أن يكتسب العمل والله يخلقه.
ومعنى يكتسبه يعلق إرادته وقدرته وهما مخلوقتان والله يخلق هذا الفعل خلقًا أي يحدثه من العدم فيجعله موجودًا، فلا يحصل إلا بإيجاد الله وخلقه، والعبد الموفَّق برحمة الله وفضله ينظر إلى المعنى الحقيقي لهذه الحركات والسكنات، فأنا إن حركت يدي أشعر بهذه الحركة وبأنني وجهت قصدي لذلك، ولكنَّ العقل والشرع يحكمان أنني لست خالقها بل هذه الحركة التي قامت بي هي خلق الله