إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْعَالَمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَفِى اللَّهِ شَكٌّ﴾ [سُورَةَ إِبْرَاهِيم/10].
إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ، لأِنَّنَا إِذَا تَأَمَّلْنَا جَمِيعَ الصَّنَائِعِ وَتَفَكَّرْنَا فِيهَا تَفَكُّرًا سَلِيمًا عَلِمْنَا أَنَّ لَهَا صَانِعًا خَلَقَهَا.
الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى:
نُدْرِكُ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لا بُدَّ لَهَا مِنْ كَاتِبٍ، وَالضَّرْبَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَارِبٍ، وَالْبِنَاءَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ بَانٍ، فَإِذًا هَذَا الْعَالَمُ بِمَا فِيهِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ لا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ حَىٍّ مُرِيدٍ عَالِمٍ قَدِيرٍ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الَّذِى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلا يُشَابِهُهُ شَىْءٌ، لأِنَّهُ لا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ وُجُودُ فِعْلٍ مَا بِدُونِ فَاعِلٍ.
وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ طَبِيعَةً، لأِنَّ الطَّبِيعَةَ لا إِرَادَةَ لَهَا، فَكَيْفَ تَخْلُقُ؟
وَلا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الشَّىْءُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ أَنْ يَخْلُقَ الشَّىْءُ مِثْلَهُ أَىْ مُشَابِهَهُ.
فَالطِّفْلُ مَثَلاً يُولَدُ صَغِيرًا، لا يَتَكَلَّمُ وَلا يَمْشِى، ثُمَّ يَتَطَوَّرُ، فَيَبْدَأُ بِالْكَلامِ وَالْمَشْىِ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ يَنْمُو فَيَصِيرُ شَابًّا ثُمَّ كَهْلاً ثُمَّ هَرِمًا، ثُمَّ يَمُوتُ، فَمَنِ الَّذِي طَوَّرَهُ وَغَيَّرَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؟ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَطَوَّرَهُ وَغَيَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ. ثُمَّ الإِنْسَانُ لَوْ فَكَّرَ بِعَقْلِهِ لَعَلِمَ: أَنَّ كُلَّ مُتَغَيِّرٍ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ وَالْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ فَإِذًا الْعَالَمُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ.
قِصَّةُ رَجُلٍ يُنْكِرُ وُجُودَ اللَّهِ:
يُرْوَى أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُنْكِرِي وُجُودِ اللَّهِ أَتَى إِلَى أَحَدِ الْخُلَفَاءِ، وَقَالَ لَهُ: »إِنَّ عُلَمَاءَ عَصْرِكَ يَقُولُونَ: إِنَّ لِهَذَا الْكَوْنِ صَانِعًا، وَأَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ أُثْبِتَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ لا صَانِعَ لَهُ«.
فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عَالِمٍ كَبِيرٍ يُعْلِمُهُ بِالْخَبَرِ وَيَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ، فَتَعَمَّدَ الْعَالِمُ أَنْ يَتَأَخَّرَ قَلِيلاً عَنِ الْوَقْتِ، ثُمَّ حَضَرَ، فَاسْتَقْبَلَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَجْلَسَهُ فِى صَدْرِ الْمَجْلِسِ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ وَكِبَارُ النَّاسِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: »لِمَ تَأَخَّرْتَ فِى مَجِيئِكَ؟« فَقَالَ الْعَالِمُ: »أَرَأَيْتَ لَو قُلْتُ لَكَ إِنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِى أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَتَأَخَّرْتُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَيْتِىَ وَرَاءَ نَهْرِ دِجْلَةَ، فَجِئْتُ لأِعْبُرَ النَّهْرَ، فَلَمْ أَجِدْ سِوَى سَفِينَةٍ عَتِيقَةٍ، قَدْ تَكَسَّرَتْ أَلْوَاحُهَا الْخَشَبِيَّةُ، وَلَمَّا وَقَعَ نَظَرِى عَلَيْهَا تَحَرَّكَتِ الأَلْوَاحُ وَاجْتَمَعَتْ، وَاتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتْ سَفِينَةً صَالِحَةً لِلسَّيْرِ بِلا مُبَاشَرَةِ نَجَّارٍ وَلا عَمَلِ عَامِلٍ، فَقَعَدْتُ عَلَيْهَا وَعَبَرْتُ النَّهْرَ، وَجِئْتُ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ«.
فَقَالَ الرَّجُلُ: »اسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَقُولُ عَالِمُكُمْ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ كَلامًا أَكْذَبَ مِنْ هَذَا؟ كَيْفَ تُوجَدُ السَّفِينَةُ بِدُونِ أَنْ يَصْنَعَهَا نَجَّارٌ؟ هَذَا كَذِبٌ مَحْضٌ«.
فَقَالَ الْعَالِمُ: »أَيُّهَا الْكَافِرُ، إِذَا لَمْ يُعْقَلْ أَنْ تُوجَدَ سَفِينَةٌ بِلا صَانِعٍ وَلا نَجَّارٍ، فَكَيْفَ تَقُولُ بِوُجُودِ الْعَالَمِ بِدُونِ صَانِعٍ«.
سَكَتَ الرَّجُلُ وَلَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ، وَعَاقَبَهُ الْخَلِيفَةُ لِسُوءِ اعْتِقَادِهِ.