إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فائدة في بيان أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وحده لا شريك له:
هذا الإمام أبو جعفر الطحاوي مِن أهل القرن الثّالث الذي هو أحدُ القُرون الثلاث الفاضلة التي فضّلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله :” خَيرُ الناس قَرني ثم الذينَ يَلُونهم ثم الذينَ يلُونهم “رواه ابن حبان والنسائي. وأبو جعفر الطّحاوي كانَ أشهر المحدّثين الحنفيّين، وقَد عَمِل هذا الموجَز بيانًا لعقيدةِ أهلِ السنّة والجماعة، هذا أبو جعفر الطحاوي يقول في مسألة خَلق أفعال العباد التي هيَ مِن أهمّ مسَائل عِلم العقيدة :” وأفعالُ العبادِ كلُّها خَلقٌ لله تعالى وكَسْبٌ للعِباد ” أفعالُ العبادِ حَركاتُنا وسكناتُنا الظّاهرةُ والباطنة كلُّها بخلقِ الله أي هو يُبرِزها مِنَ العدَم إلى الوجُود وهيَ لنا كَسْبٌ أي نحنُ نوجّهُ إليها القَصدَ والإرادة، قَصدَنا الذي هو حادِث وإرادتَنا التي هيَ حَادثة وقُدرتَنا التي هي حادثة نوجّهُها إلى هذه الأعمال التي نعمَلُها أمّا حصولُ ذلكَ الشّىء ودخولُه في الوجُود فهو بخلقِ الله تبارك وتعالى ليسَ بخَلقِنا، هذا معتقدُ أهلِ السّنّة ولم يَشُذّ عنهُم إلا أُناسٌ شذّوا فخَالَفُوا قالَ بَعضُهم بما هو سَلبٌ للعَبدِ مِن الاختيار، جعَلُوا العَبدَ لا اختِيارَ لهُ ألبَتّة ولا فِعلَ لهُ ألبَتّةَ جعَلُوه كالماءِ الذي يَسِيل في الوادي، هذا الماءُ ليسَ باختِياره وفِعلِه يَحصُل منه هذا السّيل، إنما يُقال سَالَ الوادي لأنّهُ مَظهَرُ السّيَلان ليسَ لأنه يُحدِثُ هذا السّيل هؤلاء، زعِيمُهم يُقالُ لهُ جَهمُ بنُ صَفوان الترمذي مِن العَجم هو كانَ لهُ أتباعٌ يُقال لهم الجَهميّة (والجبرية)، ثم سَلْمُ بنُ أَحْوز لما عَلِمَ بفِتْنَتِه وإضلالِه للنّاس قتلَه فخَفّت فِتنَتُه، والفريق المقابِلُ لهؤلاء يقال لهم المعتزلة هؤلاء المعتزلةُ قالوا الله تَعالى لا يخلقُ شيئًا مِن أعمال العباد إنما هوَ خَلَق أجسَادَهم ويخلقُ فيهم الحركات التي ليسَت اختياريةً لهم كحركاتِ العُروق النّابِضة هؤلاء على زعمِهم يُنزّهون الله عن الجَور، قالوا فإنْ خَلَق العبادُ الحَسناتِ استَحقّوا على الله أن يُثيبَهم، قالوا واجِبٌ على الله، إنْ لم يَفعَل ذلكَ يكونُ هو ظالماً، وإنْ أساءَ العبادُ أي إنْ عصَوه بكُفر أو بما دونَه كذلك استَحَقّوا العذابَ لأنهم هُم خَلَقُوا هذه السّيئات، أمّا إن لم يكونُوا هُم خَالقِيْها ما يَستَحقّونَ العُقوبة كيفَ يُعاقَبُون على شىءٍ خلَقَهُ الله تعالى فيهم ولم يخلقُوه، هذه حُجّتُهم وهي داحِضةٌ، يقال لهم هل علِمَ الله في الأزلِ قَبلَ أن يخلُقَ العبادَ ما يَعمَلُون مِن الكفر والمعاصي والحسنَات، فإن قالوا لم يكن اللهُ عالما فيُقالُ لهم هلْ يَستطِيعُ العبدُ أن لا يَصدُر منه ما علِمَ اللهُ في الأزل أنّه يفعَلُه باختياره هل يصِحّ منهُ ذلكَ، لا يَصحّ.
قال تعالى :” هل مِن خَالقٍ غيرُ الله ” أي هَل مِن محدِث لشىءٍ مِنَ الأشياء الأعيانِ أو الحركات والسّكنات أو الأعمال الباطنةِ كالنّيةِ والإدراكِ، هل مِن محدِث مِن العدَم إلى الوجود لشَىء مِن ذلكَ غيرُ الله، لا.
أهلُ السّنة والجماعة على وِفَاق هذه الآيةِ وعلى وِفاق أحاديثِ رسول الله حيثُ قال صلّى الله عليه وسلّم :” اللهُمّ مُصرّفَ القُلوبِ صَرّفْ قلُوبَنا على طَاعتِك ” وفي لفظٍ ” صَرّفْ قلُوبَنا إلى طَاعتِك ” والمعنى واحدٌ، معنى على وإلى هُنا واحِدٌ في هذا الحديثِ أبلَغُ دليلٍ على أنّ اللهَ تعالى هوَ خَالقُ أفعَالِ العبادِ الحركاتِ والسّكنَات وغيرِها لأنّه إذا كانَ هوَ مُصَرّف القلوبِ أي مُقلّب القلُوبِ فهوَ بطَريق الأولى مُقلّب الجوارح اليدِ والرجْل والعين واللّسان، هذا الحديثُ وغيرُه مِن أحاديثِ النبي صلّى الله عليه وسلّم كما فيهِ تعَلّقٌ بهذه المسألة فيه شَواهِد لما ذهَب إليه أهلُ الحقّ، فليَجْعَل المؤمنُ هذا عَقدَ قَلبِه ولْيُكثرْ مِن شُهُود هذا المعنى حتى يكونَ مُوحّدًا لله تعالى توحيدًا شُهُوديّا في جميع أفعالِه وفي جميعِ حالاتِه فتَهُونُ عليه المصاعبُ والخوفُ مِن العباد، مَنْ جَعَل هذا المعنى ذكْرَه القَلبيَّ أي جعَلَ قلبَه يَستَشعرُ بذلك دائمًا هانَت عليه المصائبُ وسهُلَ عليه ما يتَوقّعُه أن يحدُث مِنْ قِبَلِ الناس، هانَ عليه أَمرُه فلا يَستَفزّه ذلكَ على نِسيانِ أنّهُ تَبارك وتعالى هو المتصرّف في كلّ شَىء، هذا يُقال لهُ التّوحيدُ الشُّهُوديّ، وما خالَف ذلك فهو باطِل، ولا يُنظَر إلى الشُّبَه التي تُوردُها المعتزلة أو غيرهم، المعتزلةُ يَنقَطعُون إذا قيل لهم لو ثبَتُّم على اعتقَادِكم أنّ العَبدَ هو يخلُق أفعالَه وكانَ مَقصُودكُم مِن ذلك الفِرار مِن أن تَنسُبوا الله إلى الجَور على زَعمكُم إن كانَ هو يخلق أعمالَ العباد السّيئة ثم يعاقبُه عليها اعتبَرتم ذلك جَورًا مِن الله تعالى فقُلتم الله منزّه عن الجَور والظُّلم فنُنَزّهُه فوقَعتُم فيما وقَعتُم فيه مِن هذا الاعتقاد، نقُول لكم أليسَ اللهُ كانَ عالما في الأزل بأنّ هذا العبدَ يختارُ هذه السّيئةَ ويعمَلُها فهل للعَبدِ إمْكانٌ أن يُغَيّر عِلمَ الله تعالى، ليسَ لهُ إمكانٌ، إذًا مِن أيّ شىءٍ هَربتم.