إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

الأشاعرة والماتريدية فرسان السنة وحماة العقيدة
يقول الله تعالى في سورة المائدة (يا أيُّها الذين ءامنوا من يَرْتَدَّ منكم عن دينهِ فسوف يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبُّونه أذِلَّةٍ على المؤمنينَ أعِزَّةٍ على الكافرينَ يجاهدون في سبيلِ اللهِ ولا يخافون لومةَ لائمٍ ذلك فَضْلُ الله يؤتيهِ من يشاء واللهُ واسعٌ عليم[54]). أخرج الحافظُ ابنُ عساكر فى (تبيين كذِب المفتري) والحاكمُ في (المستدرَك) أنَّه لمَّا نزَل قولُ الله تعالى (فسوف يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبُّونه) قال رسولُ الله  [هم قومُك يا أبا موسى]، وأومأ بيدِه إلى أبي موسى الأشعريِّ.. ورواه الإمامُ الطبريُّ في (تفسيره) وابنُ سعدٍ في (طبقاته) والطَّبَرانِيُّ في (معجمه الكبير) وابنُ أبي حاتِم.. وقال الهيثميُّ في (مَجْمَعِ الزوائد) [ورجالُه رجالُ الصحيح].. وقال الحاكم [هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم] .
 
[1] قال القُشَيْرِيُّ  [فأتباعُ أبى الحَسَنِ الأشعريِّ من قومه] قاله القرطبيُّ  في [(تفسيره)/جـ6/ص220].. [2] وقال البيهقيُّ  [وذلك لِمَا وُجِدَ فيه من الفضيلةِ الجليلةِ والمرتبةِ الشريفةِ للإمامِ أبي الحسن الأشعريِّ، رضي الله عنه، فهو من قومِ أبي موسى وأولادِه الذين أوُتُوا العلمَ ورُزِقُوا الفَهْمَ مخصوصًا من بينِهم بتقويةِ السُّنَّةِ وقمعِ البدعة بإظهارِ الحُجَّةِ ورَدِّ الشبهة] ذكره ابنُ عساكر في (تبيين كذِب المفتري).. [3] وفي (صحيح البخاريِّ) ما نصُّه [باب قدومِ الأشعريِّين وأهلِ اليمن وقال أبو موسى عن النبيِّ هم منِّي وأنا منهم].. عن النبيِّ ، قال [إنَّ الأشعريِّينَ إذا أرمَلوا في الغزوِ أو قلَّ طعامُ عيالِهم بالمدينةِ جمعوا ما كان عندَهم في ثوبٍ واحدٍ ثمَّ اقتسموه بينَهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ، فهم منِّي وأنا منهم] رواه البخاريُّ ومسلمٌ في (صحيحَيهما) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ .. [4] ولمَّا نزَلت هذه الآيةُ قدِم بعد ذلك بيسير سفائنُ الأشعريِّين وقبائلُ اليمن.. فعن النبيِّ، ، قال [أتاكم أهلُ اليمن، هم أرَقُّ أفئدةً وألْيَنُ قلوبًا، الإيمانُ يَمَانٍ والحكمةُ يَمانيَّة] رواه البخاريُّ في (صحيحه) بإسنادٍ صحيح.. [5] عن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ قال [دخلتُ على النبيِّ وعَقَلْتُ ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميمٍ فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم.. قالوا: قد بَشَّرْتَنا فأعطِنا.. مرَّتين.. ثمَّ دخل عليه ناسٌ من أهلِ اليمنِفقال: اقبلوا البشرى يا أهلَ اليمن إذ لم يقبلْها بنو تميم.. قالوا: قد قبلنا يا رسولَ الله.. قالوا: جئناك نسألُك عن هذا الأمر.. قال: كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرُه] رواه البخاريُّ في (صحيحه) بإسنادٍ صحيح.. أي كان اللهُ في الأزل ولم يكن مكانٌ ولا زمانٌ ولا جهةٌ ولا عرشٌ ولا سماءٌ ولا جسم ولا حركةٌ ولا سكونٌ ولا مخلوقٌ ثمَّ خلَق اللهُ الخَلْقَ، وبعد خَلْقهِ الخَلْقَ ما زال كما كان، فهو سبحانَه موجود بلا كيفٍ ولا مكانٍ ولا جهة، فهو سبحانَه وتعالى كما قال الإمامُ أبو جعفرٍ الطَّحَاوِيُّ  في (عقيدته) المشهورةِ التي هي عقيدةُ السلفِ والخلفِ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعة [تعالى عن الحدودِ والغاياتِ والأركان والأعضاءِ والأدوات، لا تَحْويهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كسائر المبتدَعات]..
 
ونحن نحمَد اللهَ تعالى على أن هدانا إلى هذه العقيدة عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التى كان عليها رسولُ الله  وأصحابُه ومن تَبِعَهُمْ بإحسانٍ والتى مدح الرسولُ معتنِقَها، فقال فيما رواه الإمامُ أحمدُ والبَزَّارُ والطَّبَرانِيُّ والحاكمُ بسندٍ صحيح [لَتُفْتَحَنَّ القُسطنطينيّة، فلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش] قال الهيثميُّ في (مجمَع الزوائد) [رجالُه ثقات] ولقد فُتِحَتِ القُسطنطينيَّة بعد تسعِمِائةِ عام، فتحها السلطانُ مُحَمَّدٌ الفاتحُ ، وكان سُنِّيًّا ماتُريدِيًّا يعتقد أنَّ الله موجود بلا مكان، وكان يُحِبُّ الصوفيَّة الصادقينَ ويتوسَّل بالنبيِّ ، والسلطانُ مُحَمَّدٌ الفاتحُ والجيشُ الذي كان معه كانوا ماتُريدِيَّةً وأشاعرةً وقد شَهِدَ لهم الرسولُ بأنَّهم على حالٍ حسنة، وكذا سائرُ السلاطينِ العثمانيِّين الذين ذبُّوا عن المسلمينَ وحَمَوْا الإسلامَ قرونًا متتالية.. وعلى هذا الاعتقاد مئاتُ الملايينِ من المسلمين سَلَفًا وخَلَفًا في الشرق والغرب تدريسًا وتعليمًا.. ويشهد بذلك الواقع المشاهَد.. ويكفي لبيان حَقِّيَّةِ هذا كونُ الصحابة والتابعينَ وأتباعِ التابعينَ على هذه العقيدة..ا وممَّن تبِعَهم بإحسانٍ الحفَّاظ الذين هم رؤوسُ أهلِ الحديث، ومنهم الحافظُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ صاحبُ (المستخرَج على البخاريِّ)، والحافظُ العَلَمُ المشهورُ أبو بكرٍ البيهقيُّ، والحافظُ الذي وُصِفَ بأنَّه أفضلُ المحدِّثين بالشامِ في زمانهِ ابنُ عساكر.. ولقد كان كلُّ واحدٍ من هؤلاءِ عَلَمًا في الحديثِ في زمانه.. ثمَّ جاء بعدَهم الحافظُ الموصوفُ بأنَّه أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ أحمدُ بنُ حَجَرٍ العسقلانيُّ.. فمَنْ حَقَّقَ عرَف أنَّ الأشاعرةَ فرسانُ ميادين العلمِ والحديث.. ومنهم مجدِّد القرنِ الرابعِ الهجريِّ الإمامُ أبو الطَّيِّبِ سهلُ بنُ مُحَمَّدٍ و أبو الحَسَنِ الباهليُّ وأبو بكرِ بنُ فُورَك وأبو بكرٍ الباقِلّانِيُّ وأبو إسحاقَ الأسفرايينيُّ والحافظُ أبو نُعَيْمٍ الأصبهانيُّ والقاضي عبدُ الوهّابِ المالكيُّ والشيخ أبو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ وابنُه أبو المعالي إمامُ الحرَمين وأبو منصورٍ البَغْدادِيُّ والحافظُ الدَّارَقُطْنِيُّ والحافظُ الخطيبُ البَغْدادِيُّ والأستاذ أبو القاسمِ القُشَيْرِيُّ وابنُه أبو نصرٍ والشيخُ أبو إسحاقَ الشيرازيُّ ونصرٌ الْمَقْدِسِيُّ والغزاليُّ والفُرَاوِيُّ وأبو الوفاءِ بنُ عَقيلٍ الحنبليُّ وقاضي القضاةِ الدامِغانيُّ الحنفيُّ وأبو الوليدِ الباجيُّ المالكيُّ والإمامُ السيِّد أحمدُ الرفاعيُّ وابنُ السَّمْعَانِيِّ والقاضي عِيَاضٌ والحافظُ السلفيُّ والنوويُّ وفخرُ الدين الرازيُّ والعِزُّ بنُ عبدِ السلامِ وأبو عمرِو بنُ الحاجبِ المالكيُّ وابنُ دقيقٍ العيدُ وعلاءُ الدين الباجيُّ وقاضي القضاةِ تقيُّ الدين السُبْكِيُّ والحافظُ العلائيُّ والحافظُ زينُ الدين العراقيُّ وابنُه الحافظُ وليُّ الدين والحافظُ مرتضى الزَّبيدِيُّ الحنفيُّ والشيخ زكريّا الأنصاريُّ والشيخُ بهاءُ الدين الرَّوَّاسُ الصوفيُّ ومفتي مَكَّةَ أحمدُ بنُ زَيْنِي دَحْلانَ ومُسْنِدُ الهندِ وليُّ الله الدهلَويُّ ومفتي مِصْرَ الشيخُ مُحَمَّدُ عُلَيْشٍ المالكيُّ المشهورُ وشيخُ الجامعِ الأزهرِ عبدُ الله الشرقاويُّ والشيخُ المشهورُ أبو الحسن القاوقجيُّ والشيخُ حسين الجسر الطرابُلسيُّ والشيخُ عبدُ الباسطِ الفاخوريُّ مفتي بيروتَ والعلّامةُ عَلَوِيُّ بنُ طاهرٍ الحضرميُّ الحَدَّادُ وشافعيُّ العصر رفاعيُّ الأوانِ الشيخُ الفقيهُ المحدِّث عبدُ اللهِ الهَرَرِيُّ والشيخُ الصوفيُّ الصادقُ مصطفى نجا مفتي بيروتَ وغيرُهم من أئمَّة الدين كثير لا يحصيهم إلّا الله.. ومنهم الوزير المشهور نظامُ الْمُلْكِ والسلطانُ العادلُ العالِم المجاهدُ صلاحُ الدين الأيوبيُّ فإنَّه أمَرَ أن تذاع أصولُ العقيدة على حسَب عباراتِ الأشعريِّ على المنائر قبل أذان الفجر، وأن تُعَلَّمَ المنظومةُ التي ألَّفَها له مُحَمَّدُ بنُ هبةِ اللهِ البرمكيُّ للأطفال في الكتاتيب، وهذه العقيدة تدرَّس في جامعةِ الأزهر في مِصْرَ وفي جامعةِ الزيتونةِ في تُونُسَ وسائرِ المغرب العربيِّ.. وكذا في أندونيسيا وماليزيا وباكستان وتركيَّا وبلادِ الشام والسودان واليمنِ والعراقِ والهندِ وإفريقِيَة وبخارَى والداغستان وأفغانستان وسائرِ بلادِ المسلمين.. ومنهم الملكُ الكاملُ الأيُّوبِيُّ والسلطانُ الأشرفُ خليلُ بنُ المنصورِ سيفِ الدين قلاوون وكلُّ سلاطين المماليك..
 
وليس مرادُنا بما ذكرنا إحصاءَ الأشاعرةِ والماتُريدِيَّةِ، فمن يُحْصِي نجومَ السماء أو يحيطُ علمًا بعدد رمال الصحراء؟!. فالأشاعرةُ والماتُريدِيَّةُ هم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، هم الفِرقة الناجية.. فالحَقُّ الذي لا مَحِيدَ عنه ولا شَكَّ فيه عند من له أدنى اطِّلاعٍ على تاريخِ الأمَّةِ المحمَّديَّة والفِرَقِ المنتسبةِ إليها أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ منذ ألفِ سنةٍ ونَيِّفٍ، أي بعد القرنِ الرابعِ الهجريِّ وحتَّى يومِنا هذا، هم الأشاعرةُ والماتُريدِيَّةُ ليس إلّا.. فهُم السَّوادُ الأعظمُ من الأمَّةِ، والأكثريَّةُ العظمى من المسلمينَ، منذ ما يزيد على عَشَرَةِ قرونٍ من الزمان.. فأهلُ العلمِ متَّفقونَ على أنَّ عبارةَ [أهلِ السُّنَّةِ والجماعة] إذا أطلِقت على من بعد القرنِ الرابعِ فالمراد بها الأشاعرةُ والماتُريديَّةُ لا غير.. فإليهم نتوجَّه وعليهم نقتصر.. ولذلك قال العلّامَةُ المحدِّث اللغويُّ المرتضَى الزَّبيدِيُّ  في كتابه (إتحافُ السَّادةِ المتَّقين) [إذا أطلِق أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فالمراد بهم الأشاعرةُ والماتُريدِيَّة].. وقال الحافظُ الكبير ابنُ عساكرَ  في وصفِ مذهبِ الأشاعرةِ في كتابهِ (تبيينُ كذِب المفتري) [وأئمَّةُ الأمصارِ في سائرِ الأعصارِ يَدْعُونَ إليه، ومُنْتَحِلُوهُ -أي متَّبعوه- هم الذين عليهم مدارُ الأحكامِ وإليهم يُرْجَعُ في معرفةِ الحلالِ والحرام وهم الذينَ يُفْتُونَ الناسَ].. فعقيدةُ الأشاعرةِ والماتُرِيدِيَّةِ هي عقيدةُ المسلمينَ من علماءَ وحكّامٍ وعوامٍّ على مَرِّ العصور، وهي موضِع اتِّفاقِهم، فبها يتمسَّكون، وعنها يدافعون، ومن خالَفها كالمعتزلةِ والمجسِّمةِ فهم المطرودونَ المنبوذونَ المحارَبونَ، وهذا باعترافِ جميعِ المصادرِ، ولم يخالف في ذلك سوى قِلَّةٍ لا يُعْبَأُ بهم، وهم الوهّابيَّةُ ومن وافقهم من أهلِ الأهواء.. والحمد للهِ رَبِّ العالَمين..