إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

منهج علماء الكلام في تقرير العقيدة
اعلم أن أصول التوحيد وسائر أمور العقيدة الحقة قامت على حقيتها حجج الكتاب والسنة الواضحة ‏‏وإجماع الأمة الهادية، وبراهين العقول المستقيمة التي هي شاهدة للشرع وذلك مما اختص به الإسلام ‏من ‏بين الأديان لأنه لم يأت بشىء إلا والعقل شاهد له، أما سائر الأديان فعلى خلاف ذلك، لذا ‏كانت ‏مصنفات أهل الحق في ترتيب الأدلة للرد على المبتدعة والملحدين والمنحرفين مبنية على ما ‏ذكرنا، وتفصيل ‏ذلك ما يلي:‏
 
ا- القرءان: وهو أصل الحجج وبه تثبت الرسالة وقامت الحجة على دحض الضلال، وهو المهيمن ‏على ‏الكتب السماوية، وبه يميّز الحق من الباطل، وقد أمر الله برد المتنازع فيه إليه وإلى رسوله ، قال تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: 59]، ‏والرد إلى الله ‏هو الرد إلى القرءان، والرد إلى الرسول  هو الرد إلى الأحاديث الصحاح الثابتة عن ‏رسول الله  .
 
‏2- السُّنة: اعلم أن الاحتجاج بالحديث في أمور الاعتقاديات يشترط فيه أن يكون الراوي متفقاً على ‏‏ثقته أي أن يرد الحديث بإسناد غير مختلف فيه كما ذهب إلى ذلك أهل التنزيه من المحدَثين والفقهاء، ‏فلا ‏يكفي الاحتجاج بالحديث الذي ورد من طريق ضعيف لو اعتضد كما قال الحافظ ابن حجر ‏العسقلاني ‏في “شرح صحيح البخاري” ونص عبارته (1) “لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق ‏نسبته إلى الرب ‏ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت” ‏اهـ، أي لا يكفي ‏ذلك في مسائل الاعتقاد.‏ وذكر الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ما نصه “والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق ‏على ‏توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُخْتَلَف ‏فيه وجاء ‏حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتَجُّ به” اهـ.‏ وقد نقل البيهقي في “الأسماء والصفات” (2) عن أبي سليمان الخطابي أنه لا تثبت لله صفة إلا ‏بكتاب ‏ناطق أو خبر مقطوع بصحته.‏ وكذلك يحتج بالحديث المتواتر وهو أعلى درجات الحديث الصحيح، والمتواتر هو ما أخبر به جمع ‏كثير ‏عن مشاهدة وإحساس واستمرت هذه الكثرة في الطبقة الأولى وهي التي شاهدت المخْبِرَ به ‏والثانية ‏والثالثة، فهذا الخبر لا يحتمل الكذب.‏ وأمّا ما نزل عن التواتر فهو مستفيض ويقال له المشهور، ومنه ما هو دون ذلك، فالمستفيض الذي هو ‏‏المشهور حجة في الاعتقاديات لإفادته العلم كالمتواتر، والمشهور هو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، ‏وقد ‏اشترط أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية أن يكون الحديث في درجة المشهور للاحتجاج به في ‏أمور ‏العقيدة، واحتج في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثاً من قبيل المشهور جمعها ‏كمال الدين ‏البياضي.‏ وأما ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات.
 
‏3- الإجماع: وهو إجماع أهل الحق في مسئلة دينية، فالأصل الذي يبنى عليه إثبات قدم صفات الله ‏تعالى ‏هو الإجماع القطعي، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب “اعلم أن حكم الجواهر ‏والأعراض كلها ‏الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف ‏في هذا فهو كافر ‏لمخالفته الإجماع القطعي“اهـ، انظر”إتحاف السادة المتقين” (3).
 
‏4- العقل: اعلم أن الله تبارك وتعالى حث عباده في القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال ‏‏تعالى (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [سورة الأعراف: 185]، وقال تعالى (‏‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [سورة فصلت: 53]. وعلماء ‏‏التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتماداً على مجرد النظر بالعقل، بل ‏يتكلمون ‏في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله ، ‏فالعقل عند ‏علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلاً للدين، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما ‏جاء به الشرع ‏ولا يتناقض معه.‏ واعلم أيضاً أن علماء الحديث ذكروا أن الحديث إذا خالف النص القرءاني أو الحديث المتواتر أو ‏صريح ‏العقل ولم يَقبل تأويلاً فهو باطل، وذكر ذلك الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج ‏الدين ‏السبكي في جمع الجوامع وغيره.‏ وقال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي في كتابه “الفقيه والمتفقه ” ما نصه (4) “وإذا روى الثقة ‏المأمون ‏خبراً متصل الإسناد رُد بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع ‏إنما يَرِد ‏بمجوَّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا” اهـ.‏
 
وليُعلم أن العقل مفيد للعلم خلافاً للسُّمَّنية في جميع النظريات وبعض الفلاسفة في الإلهيات. فإن قيل: ‏لو ‏كان هذا يفيد العلم القطعي لتحقق في كل من نظر فيه والواقع خلاف ذلك فإن كثيراً من ‏الناظرين فيه لا ‏يتحقق لهم ذلك العلم القطعي، فالجواب أن يقال: إنما لم يحصل لهم العلم به لفساد ‏نظرهم، وأما النظر ‏الصحيح هو الذي استوفى شرط النظر فهو في حد ذاته مفيد للعلم القطعي.‏ تنبيه: قال الشيخ شرف الدين التلمساني في شرح لمع الأدلة (5) ما نصه “إن الشرع إنما ثبت بالعقل ‏فلا ‏يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل، فإذا تقرّر هذا ‏فنقول: ‏كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات مما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن ‏يكون ‏متواتراً أو ءاحاداً، فإن كان ءاحاداً وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو ‏غلطه، ‏وإن كان ظاهراً فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواتراً فلا يتصور أن يكون نصّاً لا يحتمل ‏التأويل فلا ‏بُد أن يكون ظاهراً أو مُحْتَمِلاً فحينئذ نقول: الاحتمال الذي دل العقل على خلافه ليس ‏بمراد منه، فإن ‏بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعداً ‏فلا يخلو إما أن يدل ‏قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلَّ حُمل عليه، وإن لم يدل قاطع على ‏التعيين فهل يعين بالظن ‏والاجتهاد؟ اختلف فيه فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد” اهـ.‏ وقول ابن التلمساني إن مذهب السلف عدم التعيين لعله يريد بذلك عدم كثرة ذلك بالنسبة للخلف ‏وإلا ‏فقد ثبت عن السلف كما ثبت عن الخلف، فمن نفى التأويل عن السلف غالط لثبوت ذلك عن ‏أحمد ‏بالإسناد الصحيح، وكذلك ثبت عن الإمام البخاري وغيرهما.‏
 
…………………………………………………………………………………………
 
‏(1)‏ فتح الباري (1/ 174).‏
‏(2)‏ الأسماء والصفات (ص/ 335).‏ ‏
(3)‏ إتحاف السادة المتقين (2/ 94).‏ ‏
(4)‏ الفقيه والمتفقه (ص/ 132).‏ ‏
(5)‏ شرح لمع الأدلة (ص/ 76)، مخطوط.‏‏