إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فإن اللهَ تباركَ وتعالى نصبَ لنا أدلةً عقليَّةً أنهُ لا يُشبِهُ مخلوقَهُ بوجهٍ منَ الوجوهِ، نَصبَ لنا أدلةً عقليَّةً على استِحالةِ الجلوسِ على اللهِ تباركَ وتعالى وأنزلَ ءايةً مُحْكَمَةً في القُرءانِ الكريمِ تدُلُّ على ذلكَ أي تدلُّ على تنزيهِ اللهِ تباركَ وتعالى عنِ الجلوسِ وغيرِ ذلكَ من صفاتِ البشرِ بلْ عن كلِّ صفةٍ من صفاتِ الـمخلوقينَ وهو قولهُ تباركَ وتعالى في سورةِ الشورى ﴿ليسَ كمِثلهِ شىء وهُوَ السّميعُ البصيرُ﴾ هذهِ الجُملةُ معَ وجازَةِ لفظِها فمعناها واسعٌ تُنَزِّهُ اللهَ تباركَ وتعالى عن كلِّ صفةٍ مِنْ صفاتِ البشرِ.
صفاتُ البشرِ نعرِفُها مِنْ أنفُسِنا، الجُلوسُ من صفاتِنا والتَّنَقُّلُ مِنْ أعلى إلى أسفلَ أو مِنْ أسفلَ إلى أعلى هذا أيضًا مِنْ صِفاتِنا، كذلك اتخاذُ حَيِّزٍ أي مَكانٍ يُتَحيَّزُ فيه هذا أيضًا من صِفاتِنا، كذلكَ التغيُّرُ مِنْ صفاتِنا، كذلكَ التَّأثُّرُ مِنْ صفاتِنا، كذلكَ الانفعالُ هذا من صفاتِنا، فاللهُ تباركَ وتعالى مُنزَّهٌ عن هذهِ الصفاتِ كلِّها، فمَنِ ادَّعى أنهُ معَ السّلفِ وقال ﴿الرحمنُ على العرشِ استَوَى (1)﴾ بمعنى الجلوسِ فقدِ افترى وكذبَ كذِبًا ظاهرًا لأنهُ لـم يقُلْ أحدٌ منَ السلفِ إنَّ استوى هنا بمعنى جلسَ، لا يثبُتُ عنْ أحدٍ منْ أصحابِ رسولِ الله الذينَ عُرِفُوا بتفسيرِ القرءانِ ذلك، لا يثبتُ عنْ أحدٍ مِنهم، أمَّا أنْ يكذِبَ بعضُ الكذَّابينَ مِمَّنْ جاءَ بعدَ الصحابةِ وينسُبَ إلى بعضِ الصحابةِ أنهُ فسَّرَ هذهِ الآيةَ ءايةَ الاستواءِ على العرشِ بالاستقرارِ أوِ امتِلاءِ العرشِ بهِ فهذا لـم يَرِد مِمَّنْ هُوَ منَ الثقاتِ الثابِتينَ إنَّما جاءَ مِنْ طريقٍ يُقالُ لها عندَ أهلِ الحديثِ سلسلةُ الكذِبِ، هذهِ السلسلةُ سلسلةُ الكذبِ افْتَرَتْ على ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما فقالتْ إنَّ ابنَ عباسٍ قال ﴿الرحمنُ على العرشِ استَوى (2)﴾ استقرَّ، هذا افتراءٌ على ابنِ عباسٍ، لا يثبُتُ عن أحدٍ منَ الصحابةِ تفسيرُ استواءِ اللهِ على العرشِ بالجُلوسِ أوِ الاستقرارِ إنَّما بـما أنَّهُم كانوا يفهَمونَ اللغةَ العربيةَ كانوا يفهَمونَ مِنْ قولِ اللهِ تباركَ وتعالى ﴿الرحمنُ على العرشِ استَوى﴾ معنًى يليقُ باللهِ تعالى كعُلُوِّ القَدْرِ، عُلُوُّ القدرِ هو صفةٌ مِنْ صفاتِ اللهِ، اللهُ تعالى وصفَ نفسَهُ بذلكَ فقالَ في سورةِ البقرةِ ﴿وهُوَ العَليُّ العظيمُ﴾ العليُّ معناهُ عليُّ القَدْرِ رفيعُ الدرجاتِ ليسَ معناهُ أنهُ مُستقرٌّ على العرشِ الذي هوَ مِنَ العالَمِ العُلويِّ ولا على الكُرسيّ الذي هو جِرمٌ عظيمٌ تحتَ العرشِ، كلُّ هذا لا يليقُ باللهِ تعالى لأنَّ الاستقرارَ والجلوسَ صفةٌ من صفاتِ البشرِ فكلُّ صفةٍ من صفاتِ البشرِ لا تليقُ باللهِ تعالى، بلْ قالَ بعضُ السلفِ وهوَ الإمامُ أبو جعفرٍ الطحاويُّ الذي كانَ من أهلِ القرنِ الثالثِ الهجريِّ ثمَّ أدركَ جُزءًا منَ القَرنِ الرابعِ فتُوُفِّيَ، هذا الإمامُ الذي هُوَ منَ السلفِ قالَ في عقيدَتِهِ المشهورةِ التي هيَ مُتداوَلَةٌ بينَ العلماءِ مِنْ ذلكَ الزمنِ إلى عَصرِنا هذا قال رضيَ اللهُ عنهُ (ومَنْ وصفَ اللهُ بمعنًى من معاني البشرِ فقدْ كَفَرَ) هذه الجملةُ احفَظُوها وحَفِّظُوها أهالِيكُم ومَنْ وصفَ اللهَ بمعنًى من معاني البشرِ فقد كفرَ، معانـي البشر كثيرةٌ، كلُّنا يعرفُ معانيَ البشرِ أي صفاتِ البشر، كلُّنا نعرِفُ، الجلوسُ مِنْ صِفاتِنا، الجلوسُ لا يصِحُّ في لغةِ العربِ إلا مِمَّن لهُ نِصفانِ نصفٌ أعلى ونصفٌ أسفل، الإنسانُ هكذا لذلكَ يُوصَفُ بالجلوسِ والكلبُ كذلكَ يُوصَفُ بالجلوسِ وكثيرٌ منَ البهائمِ تُوصَفُ بالجلوسِ لأنَّ لها نِصفًا أعلى ونصفًا أسفل.
ثمَّ الجلوسُ في لغةِ العربِ عبارةٌ عنْ التقاءِ المقعدةِ بالأرضِ أو بالكرسيِّ أو نحو ذلك، هذا معنى الجلوسِ فكيفَ يُوصَفُ خالقُ العالَمِ الذي خلقَ الإنسانَ وصِفاتِهِ وخلقَ سائرَ الأشياءِ وصفاتِها بالجلوسِ الذي هوَ تَلاصُقُ جِسمَينِ أحدُهُما لهُ نصفانِ نصفٌ أعلى ونصفٌ أسفل. هؤلاءِ كيفَ يزعُمُونَ أنَّهُم عرَفُوا اللهَ تعالى، يُفسِّرونَ ﴿الرّحمنُ على العرشِ استوى (3)﴾ بالجلوسِ ثمَّ يزعُمُونَ أنَّهُم عرَفُوا اللهَ وأنهُم ءامنُوا بهِ، هيهاتَ هيهاتَ هذا منَ الكَذِبِ البعيدِ.
ثمَّ هؤلاءِ أنفُسَهُم يُحرِّفُونَ ءاياتٍ قُرءانيةً ورَدَتْ في بيانِ أحوالِ الـمُشركينَ الذينَ كانوا في الزمنِ الذي كانَ القُرءانُ ينزِلُ فيهِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، المشركونَ مِنْ جُملةِ مقالاتِهِم أنْ قالوا ﴿ما نَعْبُدُهُم إلا ليُقَرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفَى﴾ (4) هؤلاءِ المشركونَ الذينَ كانوا في زمنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم الذينَ كانوا مُعادينَ للرسولِ مكذبينَ لهُ مؤْذِينَ لهُ مُستَهْزِئينَ بهِ كانوا يقولونَ هذهِ الأوثانُ التي ينهانا محمدٌ عنْ عِبادَتِها نحنُ لا نعبُدُها إلا لتُقَرِّبَنا إلى اللهِ، اعتَرَفُوا بأنَّهُم يعبُدُونَها، وما معنى العبادة، معنى العبادةِ نهايةُ التذَلُّلِ، كانوا يُعظِّمُونَها كتعظيمِ اللهِ تباركَ وتعالى، كانوا يتذَلَّلُونَ لـها نهايةَ التذلُّلِ، هذا كانَ عبادَتَهُم لـها، لأوثانِهِم.
هؤلاءِ الـمحرِّفونَ لدينِ اللهِ يـجعَلونَ أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذينَ هم مُؤمنونَ باللهِ ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم ويعتقدونَ أنهُ لا أحدَ يستحقُّ أن يُتَذَلَّلَ لهُ نهايةَ التذللِ إلا اللهُ تباركَ وتعالى ولا يُعظِّمُونَ أحدًا سوَى اللهِ نهايةَ التعظيمِ، عن هؤلاءِ المؤمنينَ يقولونَ أنتُم مثلُ أولئكَ، مثلُ أولئكَ عُبَادِ الأوثانِ الذينَ قالوا في التَّشَبُّثِ على عبادةِ الأوثانِ التي كانوا يعبُدُونها ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إلا ليُقَرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفَى﴾ يقولونَ أنتُم مثلُ أولئكَ، أحدُكُم عندما يذهبُ لزيارةِ قبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أو قبرِ أيِّ نبيٍّ أو قبرِ أيِّ وليٍّ للتبركِ فقد أشركَ صارَ مثلَ أولئكَ معَ أنَّ التبركَ بالرسولِ وبآثارِهِ كانَ الصحابةُ يفعَلونَهُ حتى إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم في حجّةِ الوداعِ وعُمرةِ الجِعْرانةِ حلقَ رأسَهُ بالموسى ثمَّ قَسَمَ شعرَهُ بينَ الصحابةِ (5) وما قسَمَ هذا الشَّعَرَ إلا ليتبَرَّكُوا بهِ فكانُوا يتبرَّكونَ بهِ في حياتِهِ وبعدَ وفاتِهِ حتى إنهُم كانوا يغمِسُونَهُ في الماءِ فيَسْقُونَ هذا الماءَ بعضَ الـمَرْضَى تبرُّكًا بأثرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأثرُ في البخاريِّ وغيرِهِ، كانَ أحدُهم أخذَ شعرَةً والآخرُ أخذَ شَعَرَتَينِ وخالدُ بنُ الوليدِ رضيَ اللهُ عنهُ كانت لهُ قَلَنْسُوةٌ وَضَعَ في طَيِّها شعرًا مِنْ ناصيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أيْ مُقَدَّمِ رأسِهِ لـمَّا حلقَ صلى الله عليه وسلم في عُمرةِ الجِعرانةِ، الجِعرانَةُ بعدَ مكةَ إلى جهةِ الطائفِ، ليسَ حَلَقَهُ في الحجِّ، لا، هذا لَمَّا حلقَ رأسَهُ في العُمرةِ مِنْ ذلكَ الشعرِ أخذَ خالدُ بنُ الوليدِ شعرَ الناصيةِ أيْ مُقدَّمِ الرأسِ فوضَعَهُ في قَلَنْسُوَّتِهِ فكانَ ذاتَ مرةٍ في غزوةٍ منَ الغزواتِ فقَدَها، فكانَ يبحثُ عنها ويُفتِّشُ عنها تفتيشًا شديدًا حتى وجدها فقيلَ لهُ لـماذا أنتَ تطلُبُ هذهِ القَلَنسُوةَ كلَّ هذا الطلبِ فقالَ إنِّي وضعتُ فيها مِنْ شَعَرِ ناصيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما حَضَرْتُ وقْعَةً إلا رُزِقْتُ النُّصْرَةَ كلما حضَرْتُ معركةً انتصَرْتُ على الكفارِ ببركةِ هذا الشعرِ شعَرِ النبي صلى الله عليه وسلم (6).
الصحابةُ كانَ معروفًا عنهم أنهم يتبركونَ بآثارِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ بعدَ موتِهِ صلى الله عليه وسلم وقعَ مـجاعةٌ شديدةٌ في عهدِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، الصحابةُ كانَ معروفًا عنهم أنهم يتبركونَ بآثارِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ بعدَ موتِهِ صلى الله عليه وسلم وقعَ مـجاعةٌ شديدةٌ في عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ، تسعةَ أشهُرٍ انقطعَ المطرُ عنهم صارت مـجاعةٌ، بعضُ أصحابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم جاءَ إلى قبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فقالَ (يا رسولَ الله اسْتَسْقِ لأمَّتِكَ فإنَّهُم قد هلَكُوا) هذهِ يُقالُ لها استغاثةٌ وتوسلٌ، فجِئَ في المنامِ أُتِيَ هذا الرجلُ الصحابيُّ في المنامِ فقيلَ لهُ أَقْرِئْ عُمَرَ السلامَ وأخبِرْهُ أنهم يُسقَونَ فذهبَ الرجلُ إلى عُمَرَ فقَصَّ عليهِ رُؤياهُ وماذا فعلَ بأنهُ ذهبَ إلى قبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وتوسلَ به (7)، ثـمَّ سقاهُمُ اللهُ تباركَ وتعالى حتى سُـمِّيَ ذلكَ العامُ عامَ الفَتْقِ، مِنْ شدةِ ما ظهرَ منَ الأعشابِ سَـمِنَتِ المواشي حتى تَفَتَّقَتْ بالشحمِ لذلكَ سُـمِّيَ عامَ الفتقِ.
ثمَّ هذا الفعلُ أي التوسلُ بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاستغاثةِ بهِ ما نقَدَهُ مِنْ هذا الصحابيّ أيْ ما عابَهُ عُمَرُ بنُ الخطابِ عليهِ، ما قالَ لهُ كيفَ تطلبُ مِنْ رسولِ اللهِ كيفَ تستغيثُ وتتوسلُ برسولِ الله وقدْ ماتَ، ما قالَ لهُ عمرُ ولا غيرُ عمرَ، كلُّ مَنْ عَلِمَ بالقصةِ ما انتَقَدَهُ عليها، هذا فِعلُ السلفِ، ويوجدُ غيرُ هذا مِنَ الحادِثاتِ التي هيَ توسلٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم مـما حصلَ للصحابةِ، معَ كلِّ هذا هؤلاءِ الشاذُّونَ مِنْ فسادِ قلوبِـهِم يُكفِّرونَ المسلمينَ الـمتبركينَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والأولياء، هذهِ الآياتُ التي نَزَلَتْ في الـمُشركينَ الذينَ كانوا يعبُدونَ الأوثانَ جعلُوها على الـمسلمينَ الـمتبركينَ بالتوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ.
واللهُ سبحانهُ وتعالى أعلم.
1- سورة طه الآية 5.
2- سورة طه الآية 5.
3- سورة طه الآية 5.
4- سورة الزمر الآية 3.
5- في حجة الوداع أخرجه البخاري في صحيحه باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.
6- رواه البيهقي في دلائل النبوة باب قدوم ضمام بن ثعلبة على رسول الله والحاكم في المستدرك باب ذكر مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه وهذه القصة صحيحة كما ذكر ذلك الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على المطالب العالية.
7- رواه البيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في رؤية النبي في المنام.