إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
مَعْنَى إِقَامَةِ الْصَّلاةِ هُوَ أَدَاءُ الْصَّلَوَاتِ كَمَا أَمَرَ اللهُ في أَوْقَاتِهَا، بِأَنْ لا تُخْرَجَ صَلاةٌ عَمْدًا عَنْ وَقْتِهَا، لأَنَّ اخْرَاجَ صَلاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ وَقْتِهَا بِلا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ كَانَ في نَظَرِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا هَيِّنًا، لَكِنَّهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَاصِي، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى مُبَيِّنًا لَنَا عُظْمَ مَعْصِيَةِ تَرْكِ الْصَّلاةِ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُون) (الماعون 4 – 5)، مَعْنى قَوْلِ اللهِ تعالى (الّذِينَ هُمْ عن صَلاَتِهِمْ سَاهُون) إخْرَاجُ فَرِيضَةٍ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ الأُخْرَى، مَثَلاً إخْرَاجُ الظُّهْرِ حَتَّى يُؤَذَّنَ لِلْعَصْرِ، أَوْ إخْرَاجُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِها حَتَّى يُؤَذَّنَ لِلْمَغْرِبِ، أَوْ إخْرَاجُ الْعِِشَاءِ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يُؤَذَّنَ لِصَلاةِِ الْصُّبْحِ، أَوْ إخْرَاجُ صَلاةِ الْصُّبْحِ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى تَطْلُعَ الْشَّمْسُ، كُلُّ هَذَا مِنْ كَبَائِرِ الْذُّنُوُبِ، لَيْسَ أَمْرًا هَيِّنًا كَمَا يَرَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْنَّاسِ، اللهُ تَبَارَكَ وتعالى تَوَعَّدَ مَنْ يُخْرِجُ صَلاةً عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْصَّلاةِ الأُخْرَى بِالْوَيْلِ، وَالْوَيْلُ هُوَ شِدّةُ الْهَلاكِ، شِدَّةُ الْعَذَابِ، فالَّذِينَ يُصَلُّوُنَ لَكِنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ بَعْضَ الْصَّلَوَاتِ عَنْ أَوْقَاتِها حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْصَّلاةِ الأُخْرَى يستحقّون الويل.
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِـّين * الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُون) أَيْ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ لَكِنَّهُمْ يُخْرِجُوُن الْصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْصَّلاةِ الَّتي بَعْدَها لَهُمُ الْوَيْلُ، أَيِ الْعَذَابُ الْشَّدِيدُ في الآخِرَةِ، الأَمْرُ الَّذِي يَقُولُ اللهُ عَنْهُ شَدِيدٌ هُوَ شَدِيدٌ بِلا شَكٍّ، اللهُ تَبَارَكَ وتعالى لا يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا لا حَقِيقَةَ لَهُ، فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى عَظَّمَ أَمْرَ تَرْكِ الْصَّلاةِ بِجَعْلِ عُقُوُبَةٍ شَدِيدَةٍ لَهُ في الآخِرَةِ، وَذَلِكَ في قَوْلِهِ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِـّينَ * الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُون) هَذَا فِيمَنْ يُصَلِّي وَيُخْرِجُ بَعْضَ الْصَّلَوَاتِ عَنْ أَوْقَاتِهَا، فَكَيْفَ الَّذِي يَقْطَعُ الْصَّلاةَ سِنِينَ، لا يُصَلِّي صَلاةً، تَمْضِي عَلَيْه سنُونٌ ولا يُصَلِّي فَرِيضَةً، فَذَاكَ عَذَابُه أَعْظَمُ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْتَنِيَ لأَدَاءِ الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ في أَوْقَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْظُّهْرَ وَالْعَصْرَ في وَقْتٍ إحْدَاهُمَا، أَيْ في وَقْتِ الْظُّهْرِ تَقْدِيِمًا، أَوْ في وَقْتِ الْعَصْرِ تَأْخِيرًا، كَالْمَرَضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ، لا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيد (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين * الذِينَ هُمْ عن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) لا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيد، لا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ، أَيِ الَّذِي هُوَ الْوَيْلُ، الْوَيْلُ مَعْنَاهُ الْهَلاكُ الْشَدِيدُ، الَّذِي يُؤَخِّرُ الْظُّهْرَ إِلى الْعَصْرِ لِكَوْنِهِ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لِيُصَلِّيَهُمَا في وَقْتِ الْعَصْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَكَذَلِكَ في الْسَّفَرِ، مَنْ شَاءَ يُؤَخِّرُ الْظُّهْرَ إِلى قَبْلِ الْغُرُوبِ، فَيُصَلِّي الْظُّهْرَ وَالْعَصْرَ في وَقْتِ الْعَصْرِ، كَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، سَفَرٌ، أَوْ مَرَضٌ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ إِلى ءاخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، بِحَيْثُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ قَبْلَ طُلُوُع الْفَجْرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَيَكُوُنُ لَهُ ثَوَابٌ أَيْضًا لأَنَّهُ أَخَّرَهُمَا إِلى هَذَا الْوَقْتِ، لأَنَّهُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إِلى هَذَا الْوَقْتِ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍ، وَهُوَ الْسَّفَرُ، أَوِ الْمَرَضُ، وَقَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ الإمَامُ أَحْمَدُ يَجُوُزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في وَقْتِ إحْدَاهُمُا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ في وَقْتِ إحْدَاهُمَا لأَيِّ عُذْرٍ مِنَ الأَعْذَارِ، وَهُوَ لَمْ يَحْصُرِ الْعُذْرَ بِالْمَرَضِ وَالْسَّفَرِ بَلْ وَسَّعَ، بَابُ الأَعْذَارِ عِنْدَهُ وَاسِعٌ، وَهَذِهِ الأَعْذَارُ مَنْ فَكَّرَ فِيهَا يَعْرِفُهَا، كَرَجُلٍ عَامِلٍ في مَعْمَلٍ، لا يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبٌ ءَاخَرُ يَصْرِفُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ لِضَرُورِيَّاتِهِ إِلا هَذَا الْمَكْسَبَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَعْمَلِ لا يَسْمَحُ لَهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ لأَدَاءِ صَلاةِ الْظُّهْرِ في وَقْتِهَا، لا يَسْمَحُ لَهُ، يَأكُلُ عَلَيْهِ شُغْلُهُ هَذَا كُلَّ وَقْتِ الْظُّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلى ءاخِرِهِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الْشَّمْسِ، هَذَا مَعْذُورٌ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ، لَهُ أَنْ يَثْبُتَ في عَمَلِهِ هَذَا الَّذِي لا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بِحَيْثُ إِنْ قَطَعَ هَذَا الْعَمَلَ يَتَضَرَّرُ، لأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ يَسْتَدِرُّهُ، وَلا عَمَلٌ ءَاخَرُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ يُحَصِّلُ مِنْهُ كِفَايِتَهُ، فَهَذَا مَعْذُورٌ. كَذَلِكَ الَّذِي عَمَلُهُ يَسْتَغْرِقُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلى ءاخِرِهِ، وَهُوَ لا يَجِدُ بَدِيلاً عَنْ هَذَا الْعَمَلِ إِنْ تَرَكَهُ، وَكَانَ يَتَضَرَّرُ إِنْ تَرَكَهُ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ لا يَسْمَحُ لَهُ أَنْ يَتَوقّفَ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ قَدْرًا يَسَعُ لأَدَاءِ الْمَغْرِبِ، هَذَا يُؤَخِّرُ صَلاةَ الْمَغْرِبِ إِلى قَبْلِ الْفَجْرِ، بِحَيْثُ لَوْ صَلاّهَا ثُمَّ صَلّى الْعِشَاءَ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، لأَنَّ هَذَا تَأخِيرٌ لِعُذْرٍ، فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ اللهِ تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّـينَ * الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُون) (الماعون 4 – 5).