إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

ففي كتابِ المستدركِ للحاكمِ من حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (أعظمُ الناسِ حقًّا على الـمرأةِ زوجُها وأعظمُ الناسِ حقًّا على الرجلِ أمُّهُ) (1) حديثٌ صحيحٌ صحَّحَهُ الحاكمُ وغيرُهُ وفيهِ بيانُ أَعظميةِ حقِّ الرجلِ على امرأتِهِ على حقِّ غيرِهِ لذلكَ حرَّمَ اللهُ عليها أن تَخرُجَ مِنْ بيتِهِ بلا إذنِهِ لغيرِ ضرورةٍ وحرَّمَ عليها أن تُدْخِلَ بيتَهُ مَنْ يكرَهُهُ فليسَ لـها أن تُدخِلَ مَنْ يكرَهُهُ زَوجُها بيتَهُ إنْ كانَ قريبًا لها أو بعيدًا وحرَّمَ اللهُ عليها أيضًا أن تَـمنَعَهُ حقَّهُ مِنَ الاستمتاعِ وما يدعو إلى ذلكَ مِنَ التَّزَيُّنِ إلا في حالةٍ لها فيها عُذرٌ جِسمانـيٌّ أو شرعيٌّ، والعُذرُ الجسمانيُّ كأنْ تكونَ مريضةً لا تُطِيقُ أنْ تُعْطِيَهُ ما يطلُبُ منها، والعذرُ الشرعيُّ كأنْ تكونَ حائِضًا أو نُفساءَ أو تكونَ في حالٍ يَضيقُ وقتُ الصلاةِ عليها إنْ أجابَتْهُ إلى ما طلبَ منها، وفيهِ أيضًا بيانُ عُظْمِ حقِّ الأمِّ على الرجلِ لأنـها أعظمُ الناسِ حقًّا عليهِ فهيَ أولَى بالبِرِّ مِنْ سائرِ الناسِ وفي حُكمِ الرجلِ المرأةُ غيرُ ذاتِ الزوجِ فإنها أوْلَى الناسِ عليها بطاعَتِها فهيَ أي المرأةُ غيرُ ذاتِ الزوجِ والرجلُ في هذا سواءٌ فيُفهَمُ منْ ذلكَ أنهُ إذا لـم يستَطِعِ الرجلُ أنْ يُنفِقَ على أبيهِ وأمِّهِ الفَقيرَينِ قدَّمَ الأمَّ أيْ أنفقَ على الأمِّ لِعَجْزِهِ عنْ نفقةِ الأبِ معَ الأمِّ أمَّا مَنْ كانَ مُستطيعًا للإنفاقِ عليهِما أنفقَ عليهِما جميعًا فرضًا وَوُجوبًا.
 
ولا يسقُطُ بِرُّ الأبِ والأمِّ عنِ الولدِ لكونِـهِما أساءَا إلى الولدِ في الصغرِ فمَنْ أضاعَهُ أبوهُ أو أمُّهُ في حالِ صِغَرِهِ فَقُطِعَ عنِ الإحسانِ والنفقةِ ثـمَّ كَبِرَ الولدُ فليسَ لهُ أن يُقابِلَ تلكَ الإساءةَ بالإساءةِ ولا يجوزُ لهُ أن يقولَ هُما لـم يرحَماني وأنا صغيرٌ بلْ أضاعاني وسلَّماني للجُوعِ والعطشِ والعُرْيِ فأنا اليومَ أعامِلُهُما بالمثلِ فإنْ فعلَ ذلكَ وقعَ في وِزرٍ كبيرٍ وهوَ وِزرُ العُقوقِ الذي قالَ فيهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثةٌ لا يَدخُلونَ الجنةَ العاقُّ لوالِدَيهِ والدَّيُّوثُ (2) ورَجُلةُ النساءِ (3)) (4) فهذا الولدُ الذي أضاعَ والدَيهِ في حالِ كِبَرِهِما واحتياجِهما إليهِ لفقرِهِما لأنَّهُما كانا أضاعاهُ في صِغَرِهِ فلـم يَعطِفا عليهِ فعامَلَهُما بالـمثلِ فأضاعَهُما يكونُ في جُملةِ العاقِّينَ ويَستحقُّ هذا العذابَ الشديدَ وهوَ أنهُ لا يدخلُ الجنةَ معَ الأوَّلينَ بلْ يدخُلُها بعدَ العذابِ معَ الآخِرِينَ هذا إنْ خُتِمَ لهُ بالإسلامِ وإلا فلا يدخُلُ الجنةَ ألبَتَّةَ ولا فرقَ في هذا بينَ الرجلِ والأنثى وإنَّما الخيرُ الذي يُكْسِبُ الإنسانَ البِرَّ الأعظمَ للوالدَينِ هوَ أنْ يُخالِفَ نفسَهُ ويَبَرَّهُـما معَ أنَّهُما ضَيَّعاهُ في صِغَرِهِ وهذا أعظمُ ثوابًا منَ الولدِ الذي يَبَرُّ أبَوَيهِ في حالِ كِبَرِهِما وفَقْرِهِما وهُـما كانا يُحسِنانِ إليهِ ويَعطِفانِ عليهِ ويَرْعَيَانِهِ بالشفقةِ والرَّحمةِ والترفيهِ أي التوسيعِ عليهِ بالنفقةِ والـمَلْبَسِ وغيرِ ذلكَ في صِغَرِهِ، وكذلكَ سائرُ الرحمِ فمَنْ وصلَ رَحِـمَهُ التي كانَتْ تقْطَعُهُ فهوَ أعظَمُ أجرًا عندَ اللهِ مِنْ صلةِ الرحمِ التي تَصِلُهُ وهذا الأمرُ كثيرٌ منَ الناسِ يُغْفِلُهُ ولا يَفعَلهُ بلْ هذا أكثَرُ أحوالِ الناسِ اليومَ يقطَعُونَ رَحِـمَهُم الذي كانَ لا يَصِلُهُم فيقولُ أحدُهُم هُم لا يعرِفُونَني فأنا أيضًا لا أعرِفُهُم، هذا محرومٌ، محرومٌ من خيرٍ كثيرٍ.
 
ثمَّ الرَّحِمُ مَنْ كانَ ذا قرابةٍ مِنَ الشخصِ وأَوْلَى الرحمِ هُمُ الأبَوانِ ثمَّ الجَدُّ والجدةُ والبَنُونَ وبَنُو البَنينَ والبناتُ وأولادُ البناتِ ثمَّ الأخوالُ والخالاتُ والأعمامُ والعمَّاتُ.
ثُـمَّ مِنْ مَداخِلِ الشيطانِ التـي يدخُلُ مِنها إلى الإنسانِ لإهلاكِهِ أنهُ إذا حصلَ شِقاقٌ بينَ الأبَوَينِ وكانَ أحدُهُـما ظالـمًا يَـحْمِلُهُ الشيطانُ على التحَزُّبِ لِمَنْ هُوَ ظالـمٌ منهُما فيقولُ لازِمٌ (5) عليَّ أنْ أنْتَصِرَ لأمي على أبـي فيَظْلِمُ أباهُ أو يقولُ العكسَ لازِمٌ أنْ أَنتَصِرَ لأبي وأتـحزَّبَ لهُ وهوَ الظالـمُ وكِلا الأمرَينِ مِنْ مُوجباتِ اللعنةِ، كِلا الأمرَينِ يُوجِبُ اللعنةَ والنَّاجي مَنْ سَلِمَ مِنْ ذلكَ كُلِّهِ.
 
ومِنَ الحكاياتِ التي تدُلُّ على عِظَمِ بِرِّ الأمِّ أنَّ رجُلاً منَ الصالِـحِينَ الـمشهورينَ يُعرَفُ ببلالٍ الخوَّاصِ قالَ كنتُ في تِيْهِ (6) بني إسرائيلَ فوَجدتُ رجلاً يُـماشينِـي فأُلْـهِمْتُ أنهُ الخَضِرُ فسَألتُهُ عنِ مالكِ بنِ أنسٍ فقالَ (هوَ إمامُ الأئمةِ) ثٌـمَّ سألتُهُ عنِ الشافعيِّ، فقالَ (هوَ مِنَ الأَوتادِ) ثٌـمَّ سألتُهُ عَنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ، فقالَ (هوَ صِدِّيقٌ) قالَ فسألتُهُ عنْ بِشرٍ الحافي (قالَ ذاكَ لـم يُـخلَقْ مِثلُهُ بعدَهُ) قال: فقلتُ له أسألُكَ بـحقِّ الحقِّ مَنْ أنتَ؟ فقالَ أنا الخضرُ، قلتُ ما هيَ الوسيلةُ التي رأيتُكَ بها، قالَ بِرُّكَ بأمِّكَ (7) الـمعنى أنَّ الفضيلةَ التي جَعَلَتْكَ أهلاً لرُؤيَتـي هيَ كَوْنُكَ بارًّا بأمِّكَ.
 
واللهُ تعالى أعلم.
 
1- رواه الحاكم في المستدرك كتاب البر والصلة.
2- الديوثُ هو الرجلُ الذي يعلمُ أن امرأتَه تزني ويسكتُ ولا يَـحُولُ بينها وبين الزنا مع المقدرة على ذلك أو هو يجلبُ لها الزناة قاله الشيخ عبد الله رحمه الله، وفي كتاب تاج العروس الديوث هو القواد على أهله والذي لا يغار على أهله و في المحكم هو الذي يدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم كأنه ليّن نفسه على ذلك وقال ثعلب هو الذي تؤتى أهله وهو يعلم. اهـ
3- أي المرأة التي تتقصدُ أن تتشبهَ بالرجالِ فهذه عذابُـها شديد قاله الشيخ عبد الله رحمه الله وفي كتاب تاج العروس يقال للمرأة رجلة إذا كانت متشبهة بالرجل في بعض أحوالها. اهـ
4- رواه البيهقي في السنن الكبرى باب الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين ويجمع عليهما ويغنيان.
5- معنى (لازمٌ عليَّ) هنا أي ألزَمُ ذلك أي أفعَلُهُ. اهـ
6- الموضعً الذي تاه فيه بنو إسرائيل لما رفضوا القتالَ مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. اهـ
7- انظر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر.